مقاربة بين الأيام الأربعين لأسراهم والسنوات الأربعين لأسرانا في السجن

هم يصرخون منذ 40 يوماً، فيما أسيرنا لا تسمع منه إلّا ما يوحي بالصبر الجميل والتمترس في خنادق قضيته المحقّة العادلة.  

  • أسرانا لا تسمع منهم إلّا ما يوحي بالصبر الجميل.
    أسرانا لا تسمع منهم إلّا ما يوحي بالصبر الجميل.

بين أسراهم الذين تجاوزوا 40 يوماً ومن تجاوز 40 سنة من أسرانا، هل تجوز المقارنة بأيّ حال من الأحوال؟! لنحاول عقد مقارنة قد تبدو سخيفة كمن يقارن بين ذرّة رمل وجبل.  

علاء البازيان لن يستطيع رؤية العالم بعد 40 سنة قضاها في السجون الإسرائيلية عندما يُطلق سراحه. لن يرى المتغيّرات الهائلة التي قلبت ملامح الدنيا بشكل كامل، ولن يكون قادراً على عقد المقارنة بين ما كان عليه محيطه من البشر والحجر، وكيف أصبح عليه الحال اليوم.

 لن يستطيع المقارنة، لأن الله أنعم عليه نعمة فقدان البصر، لكنه ببصيرته يرى ويسمع أنّات ذاك الأسير وويلات أهله وذويه بعدما مضى عليه 40 يوماً في الأسر. مما قالته قريبة ذاك الأسير: "لا ينبغي أن تمضي لحظة دون أن يكون تحرير أسرانا على رأس سلم أولويات الحكومة، وعليهم ألّا يتحدّثوا عن أيّ شيء وأسرانا عند عدوّنا". 

علاء البازيان بعد تدخّلات كثيرة من منظمات دولية سُمح له بإدخال طابعة بريل. وبعد فترة وجيزة، قامت إدارة السِّجن بسحبها منه لحجج واهية. وقد أُطلق سراحه بعد قرابة 30 سنة في صفقة "وفاء الأحرار"، ثم أعيد اعتقاله منذ 9 سنوات بصورة تعسفيّة ضربت بكلّ الأعراف والقيم التي تعارف عليها البشر عرض الحائط.

 الآن، يكمل 40 سنة، وليس 40 يوماً، ولا 40 شهراً. خاضها بكلّ آلامها وأحمالها الثقيلة القاسية. تزحزحت السنوات التي كان يبدو كلّ منها جبلاً رابضاً على صدره. 

هم يصرخون منذ 40 يوماً، فيما أسيرنا لا تسمع منه إلّا ما يوحي بالصبر الجميل والتمترس في خنادق قضيته المحقّة العادلة.  

نائل البرغوثي الذي أذاقوه كؤوس علقمهم كلّها 44 سنة، يسمع ويرى مأساة الـ40 يوماً في السجن. ينظر إلى نفسه وتاريخه الطويل في سجونهم، ويحسب عدد إضراباته المفتوحة عن الطعام، وعدد لحظات القمع، وعدد التفتيشات، وعدد الزيارات التي مُنع أهله منها، وعدد الشهداء الذين ودّعهم من السجن، وعدد اللواتي وُلدن في السجن، وعدد ضحايا الإهمال الطبّي، وعدد الأطفال الذين عصرهم السِّجن وطحن عظمهم الطريّ بين أنيابه.

 يوشك سجلّ ذكرياته على أن ينفجر، وخصوصاً عندما يذكر وفاة أبيه من دون أن يحظى بوداعه أو زيارة الوداع لأمّه التي ما فتئت تتبّعه من سِجن إلى آخر، ويعدّد الفرص التي كانت تبشّر بالإفراج عنه، ثم ما تلبث أن تتبدّد وتتلاشى، منذ صفقة أحمد جبريل لتبادل الأسرى عام 1985 إلى إفراجات التسوية، الواحدة تلو الأخرى. كانت تمرّ بقربه ثم تغادره وتتركه مع جدران السجن القاتمة. كيف يرى نائل 40 يوماً من أسر هؤلاء الأسرى؟ كم تساوي من حبسه أيها العالم الحرّ والجميل؟

ناصر أبو حميد هو من أحياء الحركة الأسيرة الذين كُتبت لهم الحياة الخالدة. هو الآن من موقعه العالي ينظر ويرى. يرى بعين أصحاب الأربعين سنة، ويرى بالعين الثانية أصحاب الأربعين يوماً. كم 40 يوماً مرّت عليه من العذاب الشديد وهو غارق في بحر من الألم الذي خطّه في جسده وروحه مرض السرطان! كم تألّم وهو ينظر من سريره في عيون السجّانين الشامتين وهم يرون الموت يحوم فوق سريره وينتشون على أمّته التي تركته لموته البطيء!

 من هناك يقول: صبراً آل ياسر، ومن موقع الاحتجاز في ثلاجة القهر مع إخوانه المحتجزين رهن المقت والحقد الصهيونازي الأليم، يرسلون رسائل العزّة والكبرياء. من هناك يشعرون بالفرج القريب لإخوانهم الذين ما زالوا ينتظرون. ميسرة أبو حمدية وبسّام السائح وفارس بارود والجمع الكريم المكرّم عند ربّهم يرفعون أكفّ التضرّع والابتهال لرب لطيف كريم عزيز. 

الشيخ خضر عدنان تركوه يموت قطرة قطرة. 86 يوماً بإضراب عدنانيّ زاد كثيراً على الإضراب الاستكتلنديّ. وقف هذا في وجه السطوة البريطانية الاستعمارية المتعجرفة، وهذا الشيخ وقف في وجه مدلّلة الغرب المتغطرسة المتوحّشة. أشهروا كلّ أسلحتهم وسنّوا أنياب أحقادهم ورموا بها هذا الرجل الذي لم يكن يريد أكثر من حريته. قتلوه بدم بارد وهم يترنّمون بتراتيل توراتية عفا عليها الزمن.

أحيوها ثم جاؤوا بها من ذاك الزمان كي يمارسوا الجريمة بأبشع صورها الممكنة وغير الممكنة، ثم بعد أن نالوا منه وقتلوه احتجزوا جثمانه الطاهر في ثلاجاتهم. كم تتلوّع قلوب أهله عليه؟! وهو بالمناسبة موقوف ولم تثبت عليه أي تهمة تستدعي الاعتقال والاستمرار في حجز جثمانه حتى بعد استشهاده، ويتفنّنون في ابتكار صنوف العذاب والقهر على أسرانا وعلى أهلهم في آن واحد.

ومن حيث الكم الهائل الذي مرّ في سجونهم، قرابة ثلاثة أرباع مليون دخلوا ماكينة العذاب هذه واكتووا بنارها. هناك الأسرى المرضى الذين تفنّن الاحتلال في التلذّذ بمعاناتهم وسماع صوت أوجاعهم، وهناك الأسيرات التي لا توجد أي مراعاة لخصوصياتهن واحتياجاتهن. أمّا الأسرى الأطفال، فحدّث ولا حرج. مسح وسحق لطفولتهم.

 رأيت على سبيل المثال من مكث منفرداً 70 يوماً في زنزانة، تحت وقع خطوات الجلاوزة وفي حالة الضغط النفسي المريع. يشهد الطفل من طواقم المحققين ما تشيب له الولدان. لا يوجد عندهم أي خصوصية لطفل أم مسنّ أو امرأة أو مريض، بل على العكس يزيدون قهراً وضرباً وتوحّشاً وشراسة.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                 كم نحتاج إلى أن نعدّد من شهدائنا وشواهدنا كي تصلح المقاربة مع الذين سُجنوا منهم منذ ما يزيد قليلاً على 40 يوماً أم لا تجوز المقاربة لكونهم بشراً ونحن أشباه البشر؟! حريّ بنا أن نعيد النّظر، وأن نتحرّك لإنقاذ أسرانا من بين براثن هذا الغول المتوحّش بطرائق متجدّدة وفعالية عالية تُبقي قضية أسرانا دوماً في المقدّمة.

 ومن الملاحظ تماماً من خلال حجم التوحّش غير المسبوق على أسرانا أنهم غيّروا كثيراً إلى الأسوأ. لذلك، مطلوب منا أن نغيّر من قواعد اشتباكنا نحو الأفضل، نصرة لأسرانا بطرائق وأساليب غير التي اعتدناها تماماً.