متى يتحرر الاقتصاد العراقي من قبضة الخزانة ومخالب الفيدرالي الأميركي؟

لعل تمديد الرئيس الأميركي جو بايدن حالة الطوارئ حيال العراق في منتصف شهر أيار/مايو الماضي، تحت ذريعة بقاء التهديدات قائمة، يؤشر إلى أن واشنطن لا تنوي رفع يدها عن العراق ولا تفكر في ذلك.

  • متى يتحرر الاقتصاد العراقي من قبضة الخزانة ومخالب الفيدرالي الأميركي؟
    متى يتحرر الاقتصاد العراقي من قبضة الخزانة ومخالب الفيدرالي الأميركي؟

في كلمة له قبل نحو شهر في مراسم تأبين أحد قادة الحشد الشعبي، قال رئيس تحالف الفتح والقيادي في الإطار التنسيقي هادي العامري: "من غير المعقول أن يتحكّم موظف في الخزانة الأميركية في أموال العراق"، وأكد أن "على العراقيين أن يقفوا موقفاً موحَّداً من أجل استقلالهم الاقتصادي، بعد الاستقرار الذي يشهده العراق حالياً أمنياً وسياسياً". 

جاءت تصريحات العامري الواضحة والصريحة إلى حد كبير في وقت كانت قضية توقف إمدادات ضخ الغاز الإيراني إلى العراق وتراجع تجهيز الطاقة الكهربائية في ظل الارتفاع الحاد في درجات الحرارة قد ألقت بظلالها الثقيلة على الشارع العراقي والأوساط السياسية المختلفة.

ولأن الولايات المتحدة الأميركية لم تكن بعيدة عن مجريات هذه "الأزمة" وعموم الأزمات والمشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية والحياتية التي أثقلت كاهل العراقيين طيلة العقدين المنصرمين، ليس غريباً أن تتعرض للهجمات والانتقادات اللاذعة. 

ولكن أن يأتي الانتقاد الحاد جداً على لسان شخصية سياسية بوزن رئيس تحالف الفتح، الذي يتسم بشخصيته المعتدلة والمتوازنة وتجنب منهج التصعيد والتأزيم، فهذا يعني أن الأمور وصلت إلى نقاط حرجة وحافات خطرة تستدعي قدراً كبيراً من الوضوح والصراحة وتسمية الأمور بمسمياتها.

بذريعة العقوبات المفروضة على إيران، لا تسمح الولايات المتحدة بتحويل مستحقاتها المالية المترتبة على بيعها الغاز للعراق، علماً أن الأخير كان يحولها بانتظام إلى حساب مصرفي خاص بإيران في المصرف العراقي للتجارة (TBI)، حتى تجاوزت المبالغ المودعة فيه 8 مليارات دولار، بيد أن إيران لا تستطيع استحصالها والاستفادة منها من دون موافقة الإدارة الأميركية، وتحديداً وزارة الخزانة الممسكة مع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بكل مسارات ومفاصل حركة رؤوس الأموال العراقية داخلياً وخارجياً. 

ربما لجأت طهران إلى استخدام ورقة تصدير الغاز للعراق، للضغط من أجل أن تحصل على مستحقاتها المالية، ولكن هناك أسباب أخرى تكمن وراء تراجع إمدادات الغاز الإيراني في بعض الأوقات، تتمثل بزيادة الطلب المحلي عليه، ناهيك بأن مشكلات الكهرباء في العراق خلال فصل الصيف تتفاقم بفعل عوامل مختلفة، لعل من بينها زيادة معدلات الاستهلاك، والعمليات التخريبية والفساد، إلى جانب رداءة شبكات النقل والتوزيع وعدم استيعابها الأحمال الإضافية في ظل الارتفاع الكبير في درجات الحرارة خلال هذه الفترة.

وما هو واضح للغاية أن واشنطن استغلت ملف الكهرباء في العراق ووظفته بصورة سيئة منذ غزوها واحتلالها له في ربيع عام 2003. وعلينا هنا أن لا ننسى أن شركة جنرال إلكتريك الأميركية هي التي أمسكت ملف الكهرباء العراقي وتحكمت فيه منذ بدء الاحتلال قبل 20 عاماً، وأبعدت الشركات الأخرى، إلا أنها زادت الأمور سوءاً، مع أنها كانت قادرة على معالجة تلك الأزمة، ولو جزئياً، وفي ذلك كانت حسابات وأجندات سياسية خاصة!

وقد لا يبتعد أسلوب واشنطن في منع أو عرقلة وصول عوائد تصدير الغاز الإيراني إلى طهران عن مجمل منهجها السلبي في ذلك، فهي من جانب تريد أن تزيد ضغوطاتها السياسية والاقتصادية على إيران وتخلق نقمة شعبية على النظام السياسي الحاكم فيها. 

ومن جانب آخر، تطيل إرباك الوضع العراقي، لا سيما في جانبه الاقتصادي والحياتي. وفي الوقت نفسه، تخلق أجواء شعبية مستاءة من إيران في الشارع العراقي، في ضوء خدعة أن الأخيرة أوقفت تصدير غازها إلى العراق، وبالتالي تسببت بأزمة الكهرباء أو فاقمتها.

ولعل الملاحظة المهمة واللافتة للانتباه هنا هي أنه كان على الحكومة العراقية أن تدخل في مفاوضات شاقة مع الولايات المتحدة لكي تقنعها باستثناء استيراد العراق للغاز الإيراني من عقوباتها ضد طهران، وكذلك عليها أن تفعل الشيء نفسه حتى تصل عائدات الغاز -أو جزء منها- إلى طهران، لكي لا تتعرقل وتتلكأ عملية تزويد البلاد بالغاز، وهذا يعني أن الأمور في قبضة واشنطن، وهي توجهها بالطريقة التي توزع ضغوطاتها بما يناسب مصالحها ويمرر مخططاتها.

وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن البنك المركزي العراقي أو عموم سياسات العراق المالية وتعاملاته تخضع لإشراف واشنطن وهيمنتها ونفوذها، فحينذاك يمكن القول إن العراق فاقد للاستقلال الاقتصادي الحقيقي، وإلا هل من المعقول والمنطقي أن لا يتمكن من استيراد سلعة ما، مثل الغاز أو غيره، من طرف خارجي مثل إيران، بصورة سلسة وطبيعية، لمجرد أن الولايات المتحدة لديها مشكلة مع ذلك الطرف؟ ناهيك بالكثير من الإجراءات العقابية التي اتخذتها واشنطن سابقاً ضد مصارف عراقية أو مؤسسات وشخصيات مالية واقتصادية عراقية بذريعة تعاون تلك المصارف والمؤسسات والشخصيات مع جهات مصنفة إرهابية وفق المنطق الأميركي.

   وكان متوقعاً ومنتظراً أن تنتهي أو تتقلص الهيمنة الأميركية على مقدرات الاقتصاد والمال العراقي بعد خروج العراق من البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة أواخر شهر شباط/فبراير من العام الماضي، ولكن لم يتغير شيء من الناحية الواقعية، فوزارة الخزانة الأميركية، ومعها بنك الاحتياطي الفيدرالي، بقيا يتحكمان في كل الخيوط، من خلال ما يسمى بصندوق تنمية العراق (DFI)، الذي شكل بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 1483، لحماية الأموال العراقية من المطالبات الدولية بعد إطاحة نظام صدام في ربيع عام 2003. 

ولعل تمديد الرئيس الأميركي جو بايدن حالة الطوارئ حيال العراق في منتصف شهر أيار/مايو الماضي، تحت ذريعة بقاء التهديدات قائمة، يؤشر إلى أن واشنطن لا تنوي رفع يدها عن العراق ولا تفكر في ذلك، علماً أن تمديد حالة الطوارئ لا يقتصر على الجوانب الأمنية المتعلقة بالتهديدات والتحديات الإرهابية، إنما يشمل جوانب اقتصادية أيضاً.

وما يعزز التصورات القائلة إنَّ هناك قدراً كبيراً من الازدواجية لدى واشنطن في التعاطي مع العراق بمختلف الجوانب، ولا سيما الجانب المالي الاقتصادي، هو أنها في الوقت الذي لا تتوقف عن ملاحقة مؤسسات وشخصيات مالية عراقية بزعم الحرص على صيانة الأموال العراقية ومحاربة الإرهاب، فإنها تغض النظر عن الكثير من الفاسدين والضالعين في أكبر وأخطر ملفات وقضايا الفساد، وبعضهم نجح في الوصول إلى الولايات المتحدة نفسها وإلى أوروبا، وبعضهم توارى عن الأنظار في تركيا أو الأردن أو الإمارات أو السعودية.

حصل ذلك في وقت كانت واشنطن قادرة على أن تساعد السلطات العراقية في استردادهم، لكنها لم تفعل ذلك، وأغلب الظن أنها لن تفعل. وما ملف سرقة الأمانات الضريبية أو ما عرف بـ"سرقة القرن"، التي تجاوزت مليارين ونصف مليار دولار، سوى مثال صارخ على ذلك.

ولا شك في أن هناك رأياً عراقياً عاماً وتوجهاً سياسياً واسعاً لإنهاء الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العراقي. تجلى ذلك بوضوح كبير عبر الترحيب والارتياح السياسي والشعبي بالاتفاق الذي أبرمته الحكومة العراقية مع نظيرتها الإيرانية في 11 تموز/يوليو الماضي، والمتضمن مقايضة الغاز الإيراني بما يعادله مالياً من النفط الخام العراقي، للتخلص من إشكالية تحويل المستحقات المالية لإيران من العراق. 

واعتبرت أوساط ومحافل سياسية وشعبية ونخبوية عراقية أن اتفاق الحكومة بمقايضة الغاز المطلوب لتشغيل محطات الطاقة الكهربائية بالنفط الخام يعد خطوة مهمة جريئة وشجاعة تشكل مقدمة لوضع لحد للنفوذ الأميركي.

ورأت أن الخروج من هيمنة واشنطن وتحقيق الاستقلال الحقيقي واسترجاع السيادة الوطنية بالكامل لا يتحقق عبر خروج القوات العسكرية الأميركية فقط، إنما لا بد أيضاً من أن تكون كل المفاصل الحيوية -الأمنية والاقتصادية- خارج دائرة نفوذ واشنطن وسطوتها، وإلا فلا فائدة من مغادرة الجنود الأميركيين أرض البلاد في مقابل استمرار مراكز صناعة القرار والتحكم في واشنطن في الإمساك بكل الخيوط المالية والاقتصادية والأمنية، وكأن العراق خاضع لوصايتها الكاملة!

وبعد الإعلان عن إبرام الاتفاق العراقي الإيراني مباشرة، اكتفت الولايات المتحدة بالقول على لسان متحدث رسمي لم يكشف عن هويته: "ليس لدينا أي تعليق في الوقت الحالي على تقارير عن ترتيب مقايضة بين العراق وإيران". 

مثل هذا الكلام قد يستبطن رفضاً ومعارضة، مثلما قد يفهم منه قبول وإقرار، بيد أن مجمل التعليقات والتحليلات الرسمية وغير الرسمية اللاحقة أشار إلى أن واشنطن متوجسة من ذلك الاتفاق، وترى فيه التفافاً من بغداد وطهران على موضوع العقوبات، وهو ما لا يمكن الركون والاستسلام إليه.

ولا بد من أن مراكز القرار الأميركي شرعت في التفكير وبحث الخيارات المتاحة والممكنة لإفشال الاتفاق ووضع العصي في عجلاته، وهذا يتطلب التحسب لذلك، وأن تقوم الجهات العراقية المعنية -ومعها الإيرانية- ببحث ودراسة كل الخيارات والسبل لإنجاح الاتفاق والمحافظة عليه وتعزيزه ما دام يصب في مصلحة الطرفين، وما دامت تحكمه وتفرضه ضرورات مرحلية ملحّة.

وأكثر من ذلك، على بغداد أن تسرّع في خطط ومشاريع تفعيل واستثمار وتوظيف القدرات والإمكانيات والموارد الذاتية إلى أقصى مستوى ممكن، باعتباره أنجع وأفضل وأقصر الطرق نحو تحقيق الاستقلال الاقتصادي الحقيقي وتخليص ثروات البلاد من مخالب واشنطن وقبضة مؤسساتها المالية.