ما أبرز أسباب أزمة الهُوية في لبنان؟
منذ تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920م، كان الانتماء الطائفي والمناطقي والحزبي والولاء للزعيم أقوى بما لا يقاس من الانتماء إلى الدولة.
جرت منذ أيام مقابلة متلفزة على قناة "الميادين" مع زعيم الحزب الديمقراطي اللبناني، طلال أرسلان، دارت بأغلبها حول جملة من المواضيع ذات البعد المحلي والإقليمي، وكان أهمها ما أثاره عن الوضع الداخلي اللبناني وما يعانيه لبنان اليوم من مشكلات سياسية بين التيارات السياسية، واصفاً بعضها بالجوهري.
وقد خصّص جزءاً من الكلام للحديث عن مشكلة الاختلاف على هُوية الدولة اللبنانية؛ هذه المشكلة التي يصفها البعض بأنها ظاهرة عامّة في الدولة العربية، ولكنها، من وجهة نظر السيد أرسلان، مشكلة خطرة وجوهرية في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة متأنية لإدراك أبعادها ومخاطرها على واقع لبنان ومستقبله.
منذ تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920م، كان الانتماء الطائفي والمناطقي والحزبي والولاء للزعيم أقوى بما لا يقاس من الانتماء إلى الدولة، وهو أمر موثق، بحسب ما ترويه الملاحظات والكتب الأكاديمية والتحليلات الصحافية. لذا، لنناقش في البداية ما يدور حول الهوية في لبنان.
من المعروف على صعيد الفكر السّياسيّ اللبناني ما يُعرف بنظرية الهوية اللبنانية لميشال شيحا: لبنان الجغرافي المتميّز عن محيطه. لبنان الليبرالي سياسياً واقتصادياً، والّذي يشكّل واحة متميزة عن المحيط العربي، ويشكّل جغرافياً نقطة التقاء عربي – غربي، والسؤال: ضمن أيِّ نوع من الهويات يصنّف هذا التعريف عند ميشال شيحا الذي يعدّ بالتأكيد مفكّراً ذا وزن مرموق عند اللبنانيين؟ هي تجسيد للانتماء إلى وطن، وليس إلى دولة؟ لم يتحدّث عن كيفية ترسيخ سلطة الدولة وترسيخ الانتماء.
ويذهب البعض إلى القول إنّ مشكلة الهوية في لبنان تتلخص بعدم تبلور هوية تشكّل مظلّة ينضوي تحتها اللبنانيون، بغضّ النظر عن تنوّعهم الديني والمذهبي وتفاوتهم الاجتماعي والثقافي، ما ينبغي أن يكون مصدراً للغنى والتطوّر على المستويات الفردية والاجتماعية، وهؤلاء يتحدّثون عن الهوية الوطنية الجامعة لهوية الثقافات والجماعات الفرعية وصهرها في بوتقة واحدة تكون عامل وحدة وغنى توظف لمصلحة تطوّر الدولة اللبنانية وتقدّمها.
ولكن هذا التعريف لم يُعنَ أصحابه بشرح الكيفية التي يمكن التأسيس من خلالها لمثل هذه الهوية، ولا ملامة عليهم في ذلك، نظراً إلى أنّ ترسيخ الهوية عملية تراكمية بنيوية تواجه العديد من الصعوبات، وخصوصاً في النموذج اللبناني، أهمها عدم التمكن على الصعيد الداخلي من إيجاد سلطة مركزية قوية أولاً، ومن ثم عدم تكريس مظاهر الانتماء ثانياً. لذا، الانتماءات الضيقة على حساب الانتماء الكلي أمر ونتيجة طبيعيان جداً.
بالطبع، من المنطقي إيراد الأحداث وأبرز المحطات التاريخية التي برزت فيها أزمة الهوية اللبنانية واضحة جلية، ولكن حرصاً على عدم الإطالة وكثرة المراجع التي تناولت هذا الموضوع، أكتفي بذكر أبعاد أزمة الهوية في لبنان، والتي تُحدد بما يلي:
أولاً: بعد أيديولوجي يتعلّق بأساس النظام السياسي اللبناني وبتوجّهاته الخارجية، وعدم الوضوح الذي يعتريهما والحيرة بين لبنان "العروبي" أو لبنان "الغربي الهوى"، كما أرادته الشمعونية، أو لبنان محور المقاومة.
ثانياً: بعد سياسي يتمثل بغياب مظاهر الانتماء وعدم نجاح من تناوبوا على حكم لبنان وإدارة مؤسساته في تكريسها وتحويلها إلى واقع عملي وبنيوي في لبنان دولة ومجتمعاً.
ثالثاً: بعد فكري عقائدي يتمثّل بالانتماء الضيق على حساب الانتماء الكلي.
وبناء على هذه الأبعاد الثلاثة، ترتسم مستويات أزمة الهوية وفق مستويين محوريين يتمثلان بشكل رئيسي بـ:
أولاً: هوية لبنان في نظر المجتمع الدولي.
ثانياً: الدولة اللبنانية في نظر المواطن اللبناني. هناك مؤسسات في الدولة اللبنانية، ولكن المواطن اللبناني لا يستطيع التمتع بذلك كواقع علمي راسخ، أي لا ينظر إلى دولته بأنها دولة مؤسسات.
ثالثاً: عدم ترسيم الحدود بوضوح بين المجتمع بشرائحه كافة من جهة، والدولة من جهة أخرى، جعل الهوية ضائعة في منطقة وسط بين الطرفين.
على العموم، إنّ ولاء المواطن اللبناني هو للأحزاب والطائفة، وتعود أسباب ذلك إلى ما يسود الواقع اللبناني من مظاهر لا تكرس الانتماء إلى الدولة، ولهذا أسبابه المتعلّقة بالدولة اللبنانية. وثمة أسباب أخرى تتعلق بالدور السلبي للأحزاب السياسية وإدراكها مكامن ضعف الدولة اللبنانية وحاجات مواطنيها، ولأسباب خاصّة بالحشد والتأييد، نذكر منها:
أولاً: ولاء المواطنين للدوائر الضيقة (الحزب والطائفة) على حساب الانتماء الأساسي إلى الدولة. ولهذا أسبابه التي تكمن في قيام الأحزاب بالأدوار التي يجب أن تقوم بها الدولة، ولا سيما الجانب الخدماتي، فإخضاع كل مرافق الدولة للقطاع الخاص وعدم وجود قطاع عام فعال أو عدم فعاليته لا يخلق انتماء بسبب تنصّل الدولة من وظائفها.
ثانياً: الفشل في تكريس مفهوم المواطنة وترجمته إلى واقع عملي. وللمواطنة ركنان أساسيان؛ أولها الشعور بالانتماء إلى وطن، وبالتالي إلى دولة ما، وثانيها يترجم هذا الشعور بالانتماء إلى علاقة متبادلة بين الأفراد والدولة التي ينتمون إليها ويُقدّمون لها الولاء، ليحصلوا في ما بعد على مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ثالثاً: شكلية المؤسسات وعدم فعالية أدوراها، وأهمها الخدمات العامة، وحقيقةً نقول: الولاء الأيديولوجي والسياسي في لبنان هو في عمقه ولاء خدماتي.
رابعاً: الاستقطاب الخارجي، فكثيرة هي الأطراف الداخلية اللبنانية التي تدين بانتمائها لأطراف خارجية، وهو ما انعكس، وسينعكس دوماً، على مسألة الهوية.
خامساً: غياب الوعي الوطني في كلّ هذه الأزمات. ثمة أطراف سياسية، حزبية وزعمائية، تتمسك بهويتها اللبنانية، وتريد في الوقت عينه إسقاط تعريفها الخاص وتوجهاتها الخاصة للبنانها. وثمة مواطنون مستعدون للذهاب "إلى الآخر" في ولائهم لزعماء هذه الصراعات.
سادساً: بنية المجتمع اللبناني بأشكالها كافة، السياسية والأمنية والاقتصادية، حيث أزمة الهوية أزمة بنيوية. لا أعتقد بوجود لبس في هذا الكلام.
سابعاً: ضعف السلطة المركزية. عندما امتنعت الدولة اللبنانية عن تقديم الخدمات الأساسية التي تعد من حقّ المواطن، كالطبابة والعلم وضمان الشيخوخة والمياه والكهرباء والطرقات الآمنة، قلصت بإرادتها ولاء المواطن لها، وتولت الزعامات المحلية هذا الدور؛ الدور الخدماتي، ما خلق تلقائياً شعور ولاء لدى المواطن للزعامة، لا للدولة، مع احتفاظه بشعور الانتماء إلى هويته اللبنانية، والأمثلة كثيرة لا داعي لذكرها.
وبالاعتماد على المنطق القائل: "أهل مكة أدرى بشعابها"، لا بد من أن هناك أسباباً أخرى من وجهة نظر اللبنانيين أنفسهم، ولكن هذا ما أسعفنا فهمنا الكليل للإحاطة به، وعلى أساس تقدير ما سلف، لا بد من تقديم ما نحسبه حلاً للمشكلة الهوية، وفق ما يلي:
أولاً: عذراً من النقاد، ولكنني أرى أنّه لا بد من عقد اجتماعي جديد في أغلب الدول العربية التي تعاني أزمة الهوية، وفي مقدّمتها لبنان، عبر مجموعة من الخطوات التي تعد أشبه بنسف الدولة وإعادة بنائها من جديد وفق ما يلي:
1. إعادة انتخاب ممثلين عن الشعب من قبل الشعب.
2. إعادة هيكلة المؤسسات كأنها لم تكن من قبل.
3. إعادة صياغة الدستور من جديد.
4. تدعيم نفوذ السلطان الضامنة للتنفيذ.
5. يجب أن يكون أي قرار حصيلة تشاورات داخلية وعدم السماح للخارج بالتدخل.
ثانياً: السبيل الوحيد لخلق الولاء والانتماء إلى الدولة يتمثّل بالإصرار على كون لبنان دولة مؤسسات، الذي يتيح القدرة على تصويب أداء المؤسّسات في مختلف قطاعات الدولة وتقويمها، وتطبيق القانون عن طريق الالتزام بمتطلباته، والالتزام بالقوانين الإداريّة، وضمان تطبيق الأداء الجيّد الرشيد والممارسات السليمة، بما يشمل الاستغلال الأمثل للموارد، واقتناص الفرص المتاحة من أجل الارتقاء بالعمل المؤسسي. ولا نخفي أن هذا الكلام نظري، ولكن لعل وعسى.
ثالثاً: تقوية القطاع العام جزء كبير من الحل، لأن الغاية السياسية من جعل القطاع العام هو القطاع الرئيسي في الدولة هو خلق حالة من الانتماء إلى الدولة، إذ تتولى الدولة كل ما يلامس وجود المواطن وحاجاته واستمراه. وبذلك، يتولد لديه الانتماء إلى الدولة، وليس إلى الحزب الذي يتكفل بأكثر من طاقته، وليس خافياً أن الولاء ها هنا ثمن لما يملأ البطون.
رابعاً: لن نقول نسف اتفاق الطائف، بل سنقول اجتماع الأحزاب والجماعات والفرق الحزبية في لبنان والتشاور لتحديد قواسم مشتركة فعلية لا شكلية بينهم والالتزام بعدم المساس بهوياتها.
خامساً: السياسة لا تكفل حل مشكلة الهوية. وقد يستغرب البعض إذا قلنا إننا ينبغي لنا الاعتناء بالقوة العسكرية اللبنانية الرسمية وقوى الأمن والاستخبارات أكثر وتقديم الدعم لها لتقوم بواجباتها على أكمل وجه.
سادساً: أتفق مع الرأي الموصي بأن فقدت الأحزاب "وظيفتها" الخدماتية التي هي في الأصل وظيفة الدولة.
سابعاً: أتفق مع الرأي الموصي بـأنّ تحرير توظيفات الدولة من التدخل الحزبي وإنشاء قوانين واضحة عصرية تحمي القطاع العام من قبضة الأحزاب الطائفية، هو خطوة أولى جذرية في اتجاه أي تغيير منشود في لبنان.
في نهاية هذا المقال، لا أخفي تقديري وإعجابي بالمفكرين والإعلاميين والمحللين والسياسيين اللبنانيين من حيث شغفهم بالسياسية وتميزهم بتحليلاتهم عما سواهم من سياسيي الدول العربية قاطبة، ولكني أقول إنهم ظواهر فردية لم تصل إلى حيز التأثير الفعلي على أرض الواقع، والدليل أنّ عبقريتهم، رغم اللباقة والبراعة وإتقان السياسية كعلم وفن، لم تنعكس على التفاهمات بين الأحزاب والجمعات التي يتزعمونها على أرض الواقع، ولم يسعفهم ذكاؤهم، كما يفترض، لأخذ لبنان إلى بر الأمان وتخليصه من مشاكله، إلا أن الواقع غير ذلك، إذ إن لبنان غارق في المشاكل التي وصلت إلى درجة تضحية بعض الأحزاب والفرق بأساسيات وأركان الدولة ومقوماتها مقابل عدم التخلي عن حيزهم الحزبي الضيق، وهو ما يثبت بأن لا قواسم مشتركة بين العاملين في الحقل السياسي في لبنان، طبعاً ليس الكلّ، ونعني بالكل الذين يأخذون على عاتقهم حفظ وجود لبنان من أي تهديد وجودي.