لعنة البركة: قراءة في لحظة الوهم وانكشاف القوة

لم تكن حرب 2024 بين "إسرائيل" وحزب الله مجرّد جولة عسكرية عابرة، بل كانت – كما كل الحروب التي تخوضها القوة المحتلة في الشرق – لحظةً يتداخل فيها الدم بالأسطورة، والنار بالدعاية، والقوة بوهم القوة.

  • أخطأت "إسرائيل" حين صدّقت أن الحرب مع حزب الله يمكن أن تُحسم. الفكرة لا تُقصف.

لم تكن حرب 2024 بين "إسرائيل" وحزب الله مجرّد جولة عسكرية عابرة، بل كانت – كما كل الحروب التي تخوضها القوة المحتلة في الشرق – لحظةً يتداخل فيها الدم بالأسطورة، والنار بالدعاية، والقوة بوهم القوة. فـ"إسرائيل"، التي اعتادت منذ 1967 أن تبني سرديتها على "معجزة السيف"، خرجت من المواجهة وهي تعلن نصراً جديداً، لا يختلف كثيراً عن "البركات" التي تحدّث عنها "شبتاي تيفيت " في كتابه "لعنة البركة"؛ تلك البركات التي ما إن تفتح أبوابها حتى تنقلب لعنةً على أصحابها، كأن القدر يعاقب المغرور بما يغريه به.

اليوم، ونحن أمام ما سُمّي "انتصاراً على حزب الله"، تتكرّر السردية ذاتها: بركة في الخطاب، لعنة في الواقع.

1. حين يُصنَع النصر من ورق

لم تنتصر "إسرائيل" في 2024 بقدر ما أعادت إنتاج عجزها. فكل ضربة جوية كانت تُنسب إلى تفوقها، كانت تُترجم داخل غرف القرار إلى سؤال مرعب: وماذا لو طال أمد الحرب؟ ماذا لو تحوّلت إلى حرب وجود؟ وماذا لو قررت الولايات المتحدة، تلك القوة التي تحدّد بقاء "إسرائيل" من عدمه، أن تسحب يدها؟

وهنا تبدأ لعنة البركة:

النصر الذي يُعلن قبل نهايته، يتحول إلى سجن.

و"إسرائيل" سجنت نفسها في خطابها.

2. حزب الله.. الفكرة التي لا تُقصف

أخطأت "إسرائيل" حين صدّقت أن الحرب مع حزب الله يمكن أن تُحسم. الفكرة لا تُقصف. والحزب، منذ نشأته، ليس تنظيماً بقدر ما هو معادلة:

معادلة القوة المضادة، والحدّ على التخوم، والرفض البنيوي لمعادلة الاحتلال.

في حرب 2024، دمّرت "إسرائيل" مواقع، واغتالت أفراداً، وقطعت أوصال البنى اللوجستية. لكن ما الذي تغيّر في أصل المعادلة؟

لا شيء.

بل لعل ما تعتقده "إسرائيل" "بركة نصرها" هو في الحقيقة ما سيحوّل السنوات المقبلة إلى لعنة أمنية لا فكاك منها.

فكل بنية دُمّرت ستُبنى أكثر مرونة.

وكل قائد اغتيل سيأتي بعده قائد أقل قابلية للمراقبة.

وكل حدود توسّعت فيها النيران ستفتح شهية أطراف إقليمية ودولية على تأدية أدوار أعمق.

هذا هو منطق التاريخ:

القوة العمياء لا تنتج إلا مقاومة أكثر بصيرة.

3. "إسرائيل".. الغرور كاستراتيجية وجود

منذ 1967، حين خرجت "إسرائيل" منتشيةً بانتصارها، دخلت في طور نفسي لم تخرج منه بعد: طور القوة التي تعدّ نفسها فوق الحياة، وفوق الجغرافيا، وفوق النقد.

كان ذلك "الانتصار" – كما يقول تيفيت – هو لحظة الانفصال بين "إسرائيل" ووعيها.

وفي 2024، حاولت "تل أبيب" استعادة تلك اللحظة.

لكن الزمن تغيّر.

والمنطقة تغيّرت.

وواشنطن نفسها تغيّرت.

"إسرائيل" اليوم تقاتل في عالم لم يعد يعترف بالتفوق المطلق. العالم الذي كانت تحلّق فيه وحيدة بطائرات متطورة، أصبح مزدحما بطائرات مماثلة، وبقدرات دفاعية مضادة، وبقوى إقليمية تستعيد أدوارها.

ما حدث في 2024 لم يكن نصراً، بل تذكيراً:

القوة التي لا سقف لها ليست قوة، بل وهماً هندسيّاً في عقل دولة تعيش على الميثولوجيا.

4. الولايات المتحدة.. الشريك الذي يحدّ ولا يحمي

أكبر لعنة في "بركة الانتصار" الإسرائيلي أن الحرب لم تتوقف بقرار إسرائيلي، بل بضغط أميركي مباشر. هذه لحظة لم تعرفها "إسرائيل" منذ عقود: أن تتوقف النار ليس لأن الجيش انتصر، ولا لأن القيادة السياسية قررت ذلك، بل لأن الحليف الأكبر قال: كفى.

بهذه الجملة القصيرة، سقط جزء كبير من أسطورة "إسرائيل":

  • أنها صاحبة قرار الحرب والسلم.
  • ومَتى تفقد قرار الحرب، تفقد سرّ وجودها.
  • والحصانة النفسية التي بنت عليها عقيدتها.

5. لبنان.. الجغرافيا التي لا تُهزم

منطق القوة يقول إن من يسيطر على السماء يربح الحرب.

لكن منطق التاريخ يقول إن من يسيطر على الأرض والبشر والوجدان هو الذي يكتب النهاية.

في جنوب لبنان، لم ينهَر المجتمع كما أرادت "إسرائيل".

لم يتفكك النسيج.

لم يتحول النزوح إلى عامل ضغط على المقاومة.

بل حدث العكس:

تشكلت بيئة صلبة، لا تهرب من النار بل تسكنها.

وهي بيئة تعرف جيداً أن "إسرائيل" ليست قدراً، بل حدثاً يمكن كسره.

هكذا تحوّل ما ظنته "إسرائيل" "بركة" – أي إفراغ القرى – إلى لعنة استراتيجية طويلة:

شعب بأكمله اكتشف أنه قادر على الحياة تحت الحرب، وأن الحرب لم تعد سلاحاً كافياً لفرض الهزيمة.

6. لعنة البركة.. خلاصة المشهد

في النهاية، ليست "إسرائيل" في وضع المنتصر.

هي في وضع القوة التي لم تفهم درسها.

القوة التي ما زالت تصدّق أن القصف يغيّر التاريخ، وأن الانتصار يُكتب بالبارود وليس بالعقل، وأن حزب الله مجرد رقم يمكن شطبه.

لكن ما حدث في 2024 يشي بعكس ذلك تماماً:

لم يتغير ميزان الردع.

لم ينكسر الحزب.

لم تُحسم الجبهة الشمالية.

لم تستطع "إسرائيل" فرض معادلتها السياسية.

لم يعد بإمكانها خوض حرب من دون إذن أميركي.

هذه هي اللعنة.

لعنة البركة التي توهمت أنها انتصار.

وبذلك يمكن القول إن "إسرائيل" اليوم تدخل طوراً جديداً:

طور تلاشي الأسطورة، فالأسطورة التي كانت أعظم من الواقع صارت أصغر من شاب يحمل صاروخاً في قرية جنوبيّة.

والقوة التي كانت تعتقد أنها تملك باب التاريخ، خرجت من الحرب لتكتشف أنها مجرد صندوق صغير في جيب واشنطن.

وهكذا يصبح "نصر 2024" امتداداً لبركة 1967:

بركة تخفي في داخلها بذرة اللعنة.. ولعنة تكشف في عمقها أن "إسرائيل" لم تنتصر يوماً إلا على نفسها.