غيوم الحزن وأمطار الدمع
في ذلك اليوم، كانت صدمة العالم كبيرة، وكان الخبر الأول في وسائل الإعلام رحيل الإمام الخميني؛ الخبر الأممي العالمي الذي يعني جميع الأديان والمذاهب.
أنباء مرض الإمام الخميني كانت حقاً بالنسبة إلينا جميعاً مقلقةً للغاية. لم نستطع ولم نشأ أن نصدّق أنّ الإمام كذلك سوف يرحل. تابعت وضعه الصحيّ لحظةً بلحظة عن طريق أصدقاء "مكتب الإمام" حضورياً أو عبر الهاتف. وكانت زوجتي أثناء مكالماتي الهاتفية تبحث أيضاً مضطربةً عن خبر سلامته، رافعةً يديها بالدعاء بعينين دامعتين. كان عليّ أن أجيب عن تساؤلات الأصدقاء والمعارف القلقين كذلك. كانت إجابتي واضحة: "عليكم بالدعاء!"، ومثل الجميع أمضيت أسابيع طويلة في أجواء من الخوف والأمل؛ أجواء ثقيلة من القلق ومستقبل مبهم.
في النهاية، وقعت تلك الحادثة المريرة والمؤسفة. تلقيت خبر رحيل الإمام ليلاً عبر الهاتف من أحد أصدقائي المقربين. لم أقوَ على الوقوف. انهرت وتداعيت على الأرض.
لم أشأ أن أصدق الأمر. لكن في النهاية، مثل سائر عشاق الإمام، سمعت خبر الرحيل رسمياً عبر الإذاعة بصوت السيد "حياتي" المرتعش؛ مذيع الأخبار في إذاعة طهران، عند الساعة السابعة من صباح يوم 4 تموز/يوليو 1989. مثل جميع الناس، تهافتنا إلى الشوارع، ثم توجّهنا نحو جماران. كانت مشاهد حزينةً لا توصف. أمضيت "ليل الغرباء" في مصلى طهران الكبير، وأشعلت الشموع. وكما ملايين العشاق، مشيت مضطرباً في تشييع جثمان الإمام على قدمي حتى مقبرة "جنة الزهراء".
كان مذهلاً حضور الناس من كل الطبقات الاجتماعية والأعمار المختلفة. تذكرت يوم وصول الإمام في 1 شباط/فبراير 1979، أي قبل عقد واحد من هذا اليوم الذي ذهبت فيه ركضاً على الأقدام مع صديقي المقرب محسن حاج ميرزائي من طهران إلى "جنة الزهراء". كبار السنّ والشباب، الكبار والصغار جميعاً. الجميع يرتدون السواد بوجوه حزينة وعيون دامعة، يرافقون ذاك العزيز المسافر ومعشوق القلوب، وذلك في حرّ تموز/يوليو الحارق.
غيومٌ من الحزن وأمطارٌ من الدمع كانت تلفّ إيران بأكملها. كان مرافقو الإمام أضعاف مستقبليه الذين كانوا يوم وروده قبل 10 سنوات، وهذا حدثٌ نادر.
بعد سنوات، عندما سقط صدام، ثم خرج من حفرته، أشرت إلى الأمر في لقاء مباشر مع قناة "الكوثر" الفضائية في تلك الليلة. رغم أنّ المقارنة بينهما - والعياذ بالله – منتفية، فإنهما يحملان الكثير من العبر. ذكرت في ذلك الحوار: "الإمام تجسيدٌ للحقّ، ويشيّع بهذه الطريقة، وذلك الذي هو رمزٌ للباطل، يكتب له هذا القدر المشؤوم: فاعتبروا يا أولي الأبصار".
في ذلك اليوم، كانت صدمة العالم كبيرة، وكان الخبر الأول في وسائل الإعلام رحيل الإمام؛ الخبر الأممي العالمي الذي يعني جميع الأديان والمذاهب. كانت البلاد والشعب في حزن شديد وثوب أسود لمدة 40 يوماً. أقيمت مراسم أربعينية الإمام في جامعة طهران بجلال كبير. وخلال صلاة الجمعة، حضرت شخصياتٌ من مختلف الدول الإسلامية. قبل الخطب، كان المتحدث الشیخ سید بركة؛ أحد الشخصيات الإسلامية الفلسطينية البارزة في غزة. كانت كلمته فصيحةً وغنيةً في المحتوى والإحساس. وقد قمت بترجمة الكلمة بنفسي بشغف وشوق وإحساس كبير.
بعد مرور ما يقارب 3 عقود على هذا الحدث الجلل، التقيت الصدیق سید بركة في إحدى المناسبات الدولية في طهران. كان يبحث عن شريط كلمته المسجّل، وقد روى للحضور خاطرة ما حصل معه بعد كلمته في ذلك اليوم.
قال سید بركة: "عندما أنهيت كلمتي ونزلت عن المنبر، جلست في صفّ الصلاة إلى جانب سماحة السيد حسن نصر الله؛ الأمين العام لحزب الله لبنان اليوم. قال لي السيد حسن: "للمرة الأولى، أرى مترجماً يترجم بحماسة وشغف أكبر من شغف المتحدث!".
وقد كانت هذه حماسة وحزن رحيل رجل بدأ معه تاريخنا.
سلامٌ على إمامنا روح الله.