طوفان الأقصى... ما بين الهرم الاجتماعي الصهيوني وعقدة الوجود

نجحت فكرة الحركة الصهيونية بإقناع اليهود بالهجرة إلى فلسطين وتأسيس الأسرة والعمل داخل "الكيبوتس". ولكن عبر معركة "طوفان الأقصى" كسرت المقاومة العمود الفقري لبنية المجتمع الصهيوني.

  • الهرم الاجتماعي الصهيوني.
    الهرم الاجتماعي الصهيوني.

في الـ 7 من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023 نجحت المقاومة في هزيمة مبدأ "الكيبوتس" فيما يعرف بغلاف غزة، إذ استطاعت المقاومة تحطيم الثلاثي المقدّس الذي استند إليه المبدأ السابق، حيثُ يقوم هذا الثلاثي على توفير ثلاث ركائز أساسية ألا وهي "الوجود، والاستقرار، والتنمية" حَسَبَ علماء الاجتماع، هذا يعني أن المقاومة تمكّنت من ضرب النظام الأساسي لبنية المجتمع الصهيوني، إذ الاحتلال يسعى لتوفير فكرة وجود المستوطن على الأرض عبر هذه "الكيبوتسات"، وتوفير الاستقرار أي الأمن، ثمَّ دعم التنمية وخصوصاً الزراعية والصناعية داخل هذه "الكيبوتسات".

على تلك الركائز الأساسية التي يجب توفيرها داخل "الكيبوتس" يمكن القول إنّ المقاومة تمكّنت فعلاً من ضرب مفهوم الاستقرارــ الأمن ــ وهذا بطبيعة الحال ما أثّر على وجود المستوطن وجعله يعيد حساباته على الصعيد السيكولوجي، ثمَّ بعد ذلك التأثير الحاصل على التنمية ــ الاقتصاد ـــ بمعنى أنّ المقاومة برعت في ضرب الهرم الاجتماعي الذي قامت عليه فكرة بناء المجتمع الصهيوني، إضافة إلى أنها تمكّنت من إقناع المستوطن الذي أقام "الكيبوتس" الذي عدّ بالنسبة للأخير الحصن الحصين ضد السكان الأصليين بأن فلسطين ليست بلاد المن والسلوى.

في هذا السياق يقول الراحل جورج حبش في كتابه "فهم أعمق وأدقّ للكيان الصهيوني": "خاضت إسرائيل معركة بناء القاعدة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية جنباً إلى جنب مع بناء القوة العسكرية المتطورة، التي تعتمد نظرية السلسلة القوية وليست الحلقة المركزية، تلك النظرية التي تنطلق من أن قوة السلسلة ليست أكبر من قوة الحلقة الأضعف فيها، ولذلك يجري العمل لتمتين حلَقات السلسلة كافة وليس الاكتفاء بحلقة مركزية قوية وحلقات أخرى ضعيفة".

استناداً لما قاله جورج حبش سعت ما تُسمى "دولة إسرائيل" إلى جعل الوجود قوة قائمة بذاتها ومرتبطة مع باقي حلَقات السلسلة، وهي الاستقرار والتنمية والتي هي الأخرى قوة قائمة بذاتها، إضافة إلى ربط هذا الهرم بعلاقة في المركز الإمبريالي، أي النظام الرأسمالي في العالم، ومن ثم تحويل هذه القوة المستعمرة ــ "إسرائيل" ـــ إلى قوة قائمة بذاتها كما تحدّث حبش في الكتاب السابق. 

وعليه نجحت فكرة الحركة الصهيونية بإقناع اليهود بالهجرة إلى فلسطين وتأسيس الأسرة والعمل داخل "الكيبوتس". ولكن عبر معركة "طوفان الأقصى" كسرت المقاومة العمود الفقري لبنية المجتمع الصهيوني وهو مفهوم "الكيبوتس"، والذي تمَّ إنشاؤه أول مرة في عام 1909 وأُطلق عليه اسم "دغانيا"، وهي أول مجموعة "كيبوتسية" تأسست في غور الأردن.

إذاً وبعد ما سبق يُدلل سلوك الاحتلال بعد تلقّيه الضربة القاصمة لعموده الفقري كما تحدّثنا سابقاً على أنهُ بات يستشعر الهزيمة والزَوال، وأصبح أمام قلق وجودي حتمي، إذ إنّ حالة من الهستيريا يُمكن ملاحظتها في سيكولوجية جنود "جيش" الاحتلال، وأكثر من ذلك هناك غضب جنوني إلى حد لا يمكن وصفه يقوم به الجنود عند عمليات الاعتقال في الضفة الغربية من جهة، حيثُ يضرب المعتقل بشكل وحشي هستيري يُثبت أنّ الاحتلال في بداية تفكّك سيادته ويعيش عملية تثبيت الوجود كمعركة مستمرة. ومن جهة أخرى إلقاء الاحتلال أطناناً كبيرة من المتفجرات على رؤوس المدنيين في غزة، والتحريض بإلقاء القنبلة النووية لإبادة سكان القطاع كما صرّح من يُسمّى وزير التراث الصهيوني "عميحاي إلياهو".

في صُلْب ما سبق وكمثال هنا لا للحصر قام الاحتلال عند ساعات الفجر يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 باقتحام بلدة بيت أمر شمال مدينة الخليل المحتلة بأكثر من 300 جندي صهيوني، وأعلن هذه البلدة منطقة عسكرية مغلقة، ثمّ قام بعد ذلك بمداهمة البيوت ورفع فوقها علم ما تُسمى "دولة إسرائيل"، وأكثر من ذلك شغّل النشيد الوطني الصهيوني "هتكفاه" فوق أسطح المنازل، إضافة إلى إجراء عمليات تفتيش واسعة داخل البيوت، وقد صادر من داخل هذه البيوت الأعلام الفلسطينية، وخارطة فلسطين التي تقوم النسوة بتطريزها، وألقى المصاحف على الأرض، ومزّق صور الشهداء المعلّقة على جدران الشوارع، يُضاف إلى ذلك نشر الرعب بين السكان عبر الصراخ وإطلاق الرّصاص الحي، وأرسل تهديدات للسكان بمنع الدعوة في المساجد للتضامن مع غزة.

ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحد، حيثُ عبر مكبرات الصوت صرخ جنود "جيش" الاحتلال على الشبان بأن يستفيقوا من النوم من أجل إلقاء الحجارة، وصعد هؤلاء الجنود على أسطح المنازل وأخذوا يغنون وهم يرقصون، وأكثر من ذلك شاركوا مقاطع فيديو وصوراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي وهم داخل هذه البلدة كُتب عليها "جيش الدفاع الإسرائيلي" الأقوى في المنطقة، ويضاف إلى أن هؤلاء الجنود طالبوا السكان بشتم المقاومة، ثمَّ قاموا بإجراء تحقيقات ميدانية داخل بعض البيوت حول رأيهم بما تقوم به المقاومة في قطاع غزة.

ما جرى في هذه البلدة هو غيضٌ من فيض عمّا يجري في بعض مناطق الضفة الغربية، كما محافظة جنين على سبيل المثال ومخيم الفوار جنوب مدينة الخليل المحتلة، حيثُ يحاول الاحتلال عبر هذه الممارسات إقناع نفسه بأنه سيبقى موجوداً للأبد، وهذا ما جعل سكان الضفة الغربية لأول مرة يشعرون فعلًا بأن الاحتلال أمام امتحان حقيقي لعقدة الوجود. 

وفي سياق متصل يستشعر الشعب الفلسطيني اليوم أنّ هذه الممارسات سوف تؤدي به إلى الزَوال قطعاً عمّا قريب، إذ أُثبت فعلاً بعد عملية "طوفان الأقصى" بأن الحلم الفلسطيني بالنصر أصبح قاب قوسين أو أدنى بالنسبة للشعب الفلسطيني، وأكثر أن ما تُسمّى "دولة إسرائيل" هشّة وضعيفة من الداخل مهما حاولت إظهار أنها قوية.