شيء ما قد تغير.. واشنطن تُهزم في "حديقتها الخلفية"
إن لجوء الولايات المتحدة إلى ألد أعدائها في فنزويلا بهدف توفير النفط لحلفائها الأوروبيين، يؤكد انتزاع بعض دول أميركا اللاتينية الشيء الكثير من استقلاليتها.
كشفت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أن شيئاً ما تغير إزاء ما تعده واشنطن حديقتها الخلفية، وأن دولاً فيها خرجت عن صمتها، وعن بيت الطاعة الأميركي، ولم تعد تهاب الاغتيالات ومحاولات قلب الأنظمة، على الرغم من محاولة الولايات المتحدة المتكررة صبغ دول "الحديقة" باليمين ومحاربة اليسار، والأهم محاربة من يخالفها، لقد تجاوزت غالبية تلك الدول مرحلة إبداء الرأي والتصويت وتأييد مشاريع القرارات الأميركية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتجنّب الغضب الأميركي، خصوصاً بعدما انتقلت واشنطن إلى مرحلة مطالبة تلك الدول بالانضمام إلى جوقة العقوبات والحرب الاقتصادية على روسيا من بوابة الحرب في أوكرانيا، واعتمدت على الابتزاز الأخلاقي لحشد "الحلفاء" ووحدة مواقفهم للرد على "الغزو الروسي" لأوكرانيا وإدانته.
على الرغم من نجاح واشنطن في آذار/ مارس في حصد تأييد 141 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة العملية العسكرية الروسية الخاصة، ومن بينها غالبية دول أميركا اللاتينية التي تربطها علاقات جيدة بموسكو، وفي الوقت الذي جاء فيه إعلان الرئيس بولسونارو تعبيراً عن لسان حال الدول اللاتينية كافة بقوله: "أصبح التعاون مع موسكو مكلفاً"، وفي الوقت الذي لا تترتب فيه على قرارات الجمعية العامة أي عواقب قانونية ملزمة، اهتمت واشنطن بحشد تأييدٍ دولي من شأنه الضغط على موسكو وإدانة سلوكها لتأكيد شيطنتها والعمل لعزلتها ومحاصرتها.
إن لجوء الولايات المتحدة إلى ألد أعدائها في فنزويلا بهدف توفير النفط لحلفائها الأوروبيين، يؤكد انتزاع بعض دول أميركا اللاتينية الشيء الكثير من استقلاليتها، وخروجها على "الوصاية"، والانتقال إلى مرحلة الحوار المتكافئ مع واشنطن، ويكشف امتداد خط الشرخ الجيو-سياسي الأميركي إلى دول "الحديقة الخلفية"، التي باتت تقترب أكثر فأكثر من مصالحها الوطنية على حساب التخلص من الهيمنة الأميركية عليها.
على الرغم من نجاح واشنطن في مهزلة تجنيد الدول الأوروبية لقتال موسكو ومعاقبتها، لكنها واجهت الهزيمة أمام المكسيك والبرازيل والأرجنتين وفنزويلا وبوليفيا وباراغواي وكولومبيا وتشيلي، على اختلاف مواقفها الظاهرية، ووجهة النظر في تعاملها مع القرار رقم 141 من الجانب الإنساني البعيد من التسيس، وفاجأتها صفعة الرئيس البرازيلي بقوله: "لن نفرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، وسنعمل للحفاظ على علاقاتنا الجيدة بها".
لقد رفضت الأرجنتين والبرازيل وبوليفيا والأوروغواي والسلفادور توقيع القرار، ووصف الرئيس السلفادوري نجيب بوكيلة ما يحدث في أوكرانيا: بأن "الحرب الحقيقية ليست بين أوكرانيا وروسيا، وهي في كندا وأستراليا وفرنسا وبروكسل وبريطانيا العظمى وألمانيا وإيطاليا وغيرها".
إن ما يمكن وصفه اليوم بالعصيان "اللاتيني"، يستند إلى الاتفاق القديم الملغى نصاً في عهد أوباما، الذي ما زال سارياً روحاً ومفعولاً، وما كان يعرف بـ"مبدأ مونرو" الذي قام على أساس أن تكون "أميركا للأميركيين"، بمعنى عدم تدخل الدول والقوى الأوروبية في شؤون القارة "الأميركية"، والتوقف عن محاولة استعادة مستعمراتها السابقة، في مقابل عدم تدخل الولايات المتحدة في دورها في الشؤون الأوروبية.. وقد منح هذا المبدأ الولايات المتحدة الفرصة لتحويل دول أميركا اللاتينية على نحو غير أخلاقي إلى دول في حديقتها الخلفية الخاصة، بعدما أخضعتها بالهيمنة والتدخل المباشر وبقلب الأنظمة، فضلاً عن استخدام القوة العسكرية، فقد احتل الأميركيون نيكاراغوا 21 عاماً، وهايتي 19 عاماً، وجمهورية الدومينيكان 8 أعوام، وتكرّر احتلال كوبا وهايتي مرتين.
لم يكن السلوك الأميركي تجاه دول أميركا اللاتينية ليختلف عن السلوك الأوروبي كمستعمرٍ قديم، بل تعداه ليكون استعماراً حديثاً ومن نوعٍ جديد.. بالتأكيد شكّل ذاكرة سيئة وتاريخاً مؤلماً، وكان له أثر كبير في الوقوف وراء مشاعر كراهية تلك الدول للدولة الأميركية العظمى، التي تطالبهم اليوم بعداء إيران والصين، وبكراهية موسكو ومعاقبتها..
وفي هذا السياق، تحوّلت نتائج المؤتمر الخامس عشر لوزراء الدفاع الأميركيين، الذي عقد في العاصمة البرازيلية في 25 و29 تموز إلى فضيحة مدوية، نتيجة رفض البرازيل والأرجنتين والمكسيك دعوة الولايات المتحدة إياهم إلى إدانة روسيا، مؤكدين أن "حل النزاع في أوكرانيا منوط بالأمم المتحدة، لا بوزراء الدفاع الأميركيين".
لقد ساهم السلوك الذي اتبعته واشنطن تجاه دول القارة الأميركية، في حماسة تلك الدول ونخبها الحاكمة للتركيز على ما يحدث في الولايات المتحدة نفسها، وطريقة اتخاذ القرارات بما يتماشى والمصالح الخاصة لطبقة النيوليبراليين المتطرفين، وأصحاب المصلحة الحقيقية في إشاعة الحروب والفوضى في العالم.
إن رفض تلك الدول أيديولوجية الغطرسة والهيمنة للرأسمالية الغربية، لا يعني اختيارها الأيديولوجيا الاشتراكية السوفياتية، لكن وعلى ما يبدو، هم يبحثون عن الاكتفاء الذاتي، والاستقلال السياسي عن الولايات المتحدة ونيوليبرالييها الجدد، في وقتٍ امتلك فيه بعض دولها من القوة ما جعلها تنضم إلى القوى الإقليمية المهمة، وتقتحم مجموعة العشرين، ونحتل مكانة مرموقة واعدة في إطار منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا الوسطى والمحيطين الهندي والهادئ، مع اقتراب انضمام الأرجنتين إلى دول البريكس قريباً.
إن اهتمام الدول اللاتينية باستقلال قرارها عن الولايات المتحدة، لا يعني فك عرى التعاون، والاتجاه نحو العداء مع واشنطن، بقدر ما هو بحثٌ عن التوازن والاستقرار الإقليمي كجزء من التوازن والاستقرار العالمي، ويلتقي في الوقت نفسه مع تطلعات عدد من الدول في العالم كالصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران وسوريا وغيرها، وتبقى وحدها الولايات المتحدة وقادة الدول الأوروبية الحليفة لها، من تجد فرصها في السير وراء السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عبر ترسيخ ظاهرة "القطيع السياسي"، الذي وجد نفسه قد تحوّل إلى "قطيع عسكري" كما حدث اليوم في أوكرانيا.