خطاب الكراهية... قراءة في مفردات الخطاب الإعلامي الغربي
يسعى الخطاب الإعلاميّ الغربيّ إلى فكّ الارتباط بين الشّعوب العربيّة وبين محدّداتها الدينيّة والثّقافيّة والسّياسيّة، بما يعزّز دعائم الغزو الثقافيّ وإلغاء عقيدة المقاومة.
لم يعد الإعلامُ سلطةً رابعةً كما كان قبل ثورة الاتّصالات والتّكنولوجيا والإنترنت، فالإعلام اليوم بات أداة طليعيّة في تشكيل الرّأي العام، وتهجين الشعوب وفق أيديولوجيا منتج الخطاب، فهو بذلك السلطة الأهم، وتحديداً في ما يتعلّق بقدرته على إعادة إنتاج الجموع خارج محدّداتها القيميّة.
وعلى الرغمِ من كلّ الحوامل العَقائديّة والتّاريخيّة والثّقافيّة للأمّتين العربيّة والإسلاميّة، فإنّها ليست بمعزل عن سطوة الخطاب الإعلاميّ الغربيّ والرواية الصهيونيّة، وإنّما هي في عين العاصفة، وهذا ما تجلّى واضحاً بعد معركة "طوفان الأقصى" وظهور العديد من ردود الأفعال الشعبيّة المؤدلجة والمضبوطة، إمّا من خلال نمذجة أدائها والسيطرة على ممارساتها العمليّة وفق مجموعة من المحدّدات الأمنيّة والسياسيّة لبعض الأنظمة التي تعترف بتبعيّتها السياسيّة للغرب، أو من خلال تقييدها ببعض الآراء الهجينة، والنّماذج العقائديّة الغربيّة، حتى باتت تتعامل مع مشروع المقاومة كعبء سياسيّ وثقافي.
وبالتّالي، فإنّه على الرّغم من تعاظم الأداءين السياسيّ والعسكريّ لقوى المقاومة، وطبيعة المنجز الاستراتيجيّ والأمنيّ في معركة "طوفان الأقصى"، وتطوّر الأداء الإعلاميّ من حيث القدرة على مواكبة ونقل الحدث، فإنّ الخطاب الإعلاميّ لقوى المقاومة لم يستطع حتى هذه اللحظة إعادة لمّ الشمل العقائديّ بينه وبين حواضنه العربيّة والإسلاميّة، بينما شكّل الخطاب ذاته عتبةً مهمة لتحريك الملايين في أوروبا والولايات المتّحدة الأميركيّة.
وعلى الرّغم من تردّدي في طرح هذه الإشكاليّة، خشية الاستغراق في رفاهيّة التّحليل في ظلّ تهديدات الاحتلال باتّساع المعركة، وحجم الظروف الإنسانية القاسية على امتداد جغرافيا القطاع، فإنّني سأتوقّف عند الشقّ الأوّل من هذه الظاهرة لخطورتها ولدلالاتها الاستراتيجية، وعلى قاعدة تفكيك الممارسات الخطابية للإعلام الغربي التي مهّدت لغياب الشارع العربي والإسلامي، وأيضاً عبر تتبّع المناخات المؤقتة التي عطّلت قدرة قوى المقاومة على تفريغ هذه الممارسات من محتواها:
أوّلاً: جملة التّحدّيات الدّاخليّة والخارجيّة التي تقف حائلاً أمام بناء خطاب إعلاميّ مقاوم موحّد، قادر على تبنّي مشروع المقاومة كظاهرة شموليّة، لا تكتفي بعكس الحقائق وتحليلها على مرآة الشاشة وصفحات الإترنت، وإنما تقوم أيضاً بصناعتها وإعادة إنتاجها وتركيب شواهدها.
فالمقاومة إزاء هذه التحدّيات لا تعمل ضمن بيئة سياسيّة واجتماعيّة مثاليّة وإنما هي في حالة استنزاف دائم لإمكانياتها وحصار مؤلم لمقدّراتها، والأخطر ربما أنّها تتحرّك ضمن جغرافيا سياسيّة صعبة جعلت الأمن السياسيّ لدول الجوار مقدّماً على الأمن القومي، ومع هذا فإنّ أي قراءة متأنيّة لصعود المقاومة على مستوى الفكرة وعلى مستوى الاحتضان الشعبي بعد معركة "طوفان الأقصى"، إنما يعزّز قناعتنا بخيريّة هذه الأمّة، ويؤكد مذهبنا بوجوبيّة الحوار الدائم مع هذه الشعوب.
ثانياً: تقييد الأداء الإعلاميّ لقوى المقاومة بالمنجز العسكريّ والسياسيّ والإنسانيّ، وتغييب أو تعطيل الممارسات الخطابيّة الخاصّة باستعادة هذه المجتمعات، نتيجة لفقه الأولويّات عند قوى المقاومة، واستغراقها في تحصين البيئة الداخليّة، والتي أثبتت التجربة العملية في معركة "طوفان الأقصى" نوعيّة هذه الحواضن وقدرتها على تحمّل ما لا يطاق في سبيل تعزيز الانتصارات الاستراتيجيّة.
ومع هذا، فإنّه من المهم جداً طرح العديد من الأسئلة التي تستدعي مناقشة جادةً بعد انتصارات معركة "طوفان الأقصى"، فكيف يمكننا فهم الأسباب التي أفقدت المنجز العسكريّ لقوى المقاومة ضد الاحتلال أو بالحدّ الأدنى حجم المأساة والتّرويع والإبادة الجماعيّة القدرة على إعادة تصويب ما تشوّه من آراء وتوجّهات عند بعض المجتمعات التي تلوّثت بحمّى الخطاب الإعلاميّ الغربي، ولماذا لم يُلحظ أيّ تبدّل في قدرة الشارع العربيّ والإسلاميّ على تجاوز خطوطه الحمر، والخروج نُصرة لمسار تاريخيّ جديد قد يعيد تركيب المشهد السياسيّ في المنطقة والإقليم.
ثالثاً: نفوذ الخطاب الإعلامي الغربيّ والرواية الصهيونيّة إلى عمق المجتمعات العربيّة والإسلاميّة كنتيجة منطقيّة لعقود من فوضى التّواصل المباشر، من دون أي أداة ضبطٍ أو حصرٍ وتنقية للمحتوى ولخلفياته التّعبوية، ومن دون أي محاولة لبناء خطابٍ إعلاميّ مضاد، ما أفقدنا السيطرة الأيديولوجيّة على المجتمعات التي يفترض أنها تتمتّع بالمناعة العقائديّة والاحتضان الفطري لمفهوم المقاومة، وفتح الباب واسعاً أمام هذا الخطاب لاكتساب المزيد من الخبرات التواصليّة مع شعوب المنطقة، والقدرات النوعيّة في التّحكم بطبيعة التدفّق المفاهيمي، وتركيب المصطلحات وتشويه المسلّمات والعبث بكلّ ما هو مقدّس.
وهذا حقيقة شكّل علامة فارقة في تاريخ قوى المقاومة ومحورها، وتحديداً في ما يتعلق بآليات التّعامل وبناء المعتقدات والتّصورات حولها، فبعد أن كانت المقاومة مُركّباً عقليّاً غير قابل للنقاش، أصبح هناك من لا يجد حرجاً في طرح مشروعيّتها على مستوى الأمّة، وخطورتها في توريط الإقليم بمعارك لا جدوى منها، وأصبحت المقاومة وجهة نظر قابلة للقياس والنقاش.
رابعاً: ديناميكيّة الخطاب الإعلاميّ الغربيّ وقدرته المتجدّدة في استحداث أنماط فكرية جديدة وإخضاعها للممارسة العمليّة المباشرة عبر نوافذه الإعلاميّة وأدواته وأبواقه وجيوشٍ من الذباب الإلكتروني، وبما يضمن إثباتها عبر التّداول والنّقاش.
فنلاحظ على سبيل المثال كيف أنّ الممارسة العمليّة لمفهوم وحدة الساحات خلال معركة "طوفان الأقصى" قد مكّنت قوى المقاومة ومحورها من إعادة إنتاج ذاتها خارج كل المحدّدات الطائفيّة التي كانت تُستخدم في الخطاب التقليديّ للإعلام الغربيّ، بل كانت تشكّل نقطة الارتكاز في بناء استراتيجيّاته البصريّة والخطابيّة والتواصليّة، ولهذا كان لا بدّ للخطاب الإعلاميّ الغربيّ من فرض معادلات ذهنيّة جديدة قادرة على استعادة مفاتيح خطاب الكراهيّة لقوى المقاومة، بغية تفريغ المعركة من أبعادها الشرعيّة والإنسانيّة وحتّى التاريخيّة، معتمدة على مجموعة من التقنيّات الخطابيّة المعقّدة ومن خلال تطويع وسائل التّواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار وبرامج التّحليل السياسي، ومن هذه التقنيات:
- ربط الأبعاد الإنسانيّة للخسائر البشريّة المهولة في القطاع بوجود المقاومة، وخارج أي سياق للوجود الاحتلالي، وبالتّالي يصبح من البداهة فرض جملة من المعادلات الذهنيّة عند المتلقّي البسيط قوامها أنّ انعدام المقاومة هو شرط منطقيّ لحماية المدنيين، وهذا تحديداً هو جوهر ما تحدّث به الرئيس الأميركي جو بايدن وخطته للسلام، إذ حصر المكافئ الذهني للسلام في فلسطين والإقليم بإلقاء المقاومة سلاحها، ما يعني أنّ تعثّر النهضة السياسية والاقتصادية وتحسين ظروف الحياة وإيقاف نزيف الدّم إنّما يتعلّق بالضّرورة باستسلام المقاومة، وليس بإجبار قوى الاحتلال على إيقاف آلة القتل والتّدمير.
- تعطيل مفعول الثّبات السياسي لقيادات المقاومة كظاهرة تاريخيّة تستحق التبصّر وإعادة القراءة، وتقديمه كشكل من أشكال المراهقة الفكريّة وإنكارٍ لواقع التّفاوت العسكري، وبالتّالي تحميله المسؤوليّة المباشرة عن استمرار المعركة وعن حجم الخسائر.
- العمل على إعادة طرح الإبادة الجماعيّة التي يمارسها الكيان في قطاع غزّة كمفهوم قابل للنقاش، وذلك من خلال استحضار العديد من الأسئلة الإنسانيّة الكبرى مع كلّ مجزرة يرتكبها الاحتلال، كأحقيّة الكيان بالدّفاع عن وجوده الحضاريّ أمام تجمّعات بشريّة تشكّل حواضن إرهابيّة!
ونلاحظ كيف تمّ تعزيز هذه التقنيّة في الخطاب السياسي للكيان، من خلال استخدام العديد من المفردات التي تتحدّث عن حقّ الدّفاع عن النّفس، وعن مصيريّة المعركة، وعن انتفاء الحلول خارج وجوبيّة الصمود وإلا فإن الكيان سيتعرّض للإبادة، وفي المقابل، الطّرح المباشر لعدم إنسانيّة الطّرف الآخر كما ادّعى وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بأنهم "يتعاملون مع حيوانات بشرية" وكما قال الأديب الإسرائيلي عزرا ياخين بأن "الفلسطينيين حيوانات لا ينبغي لها أن تعيش". وبذلك، يتم تفريغ جرائم الحرب المرتكبة من محتواها الإنساني فالحديث عن معركة لا تتحمّل وجودين!
- تكثيف المعلومات المتناقضة حول منجزات المقاومة بما يضمن نفي الإنجاز، وطرح العديد من الأسئلة المعلّقة حولها لإخراجها من حيّز القناعة إلى حيّز وجهة النظرـ أو الشك، ومن ثمّ توليد العديد من وجهات النظر لضمان تشتيت الحواضن وإخراجها من القدرة على تبني أي ممارسة عمليّة لدعم المقاومة، وضمان التخفيف من حدّة التّعاطي مع الصور البشعة القادمة من القطاع واستئناس مشاهد التّدمير والأشلاء.
ولعلّ هذه التقنيّة هي الأكثر شيوعاً ما بعد معركة "طوفان الأقصى" لجهة ضرورة استمرار المحاولة في تفريغ كلّ المنجزات العسكريّة والأمنيّة لقوى المقاومة من محتواها الإعجازي، ويمكننا في هذا الصدد رصد العديد من الأسئلة المباشرة عبر بعض البرامج الحواريّة على شاكلة " عن أيّ منجز عسكري للمقاومة نتحدث وقد مسح القطاع عن الخريطة؟ " "هل يوجد مكافئ منطقي بين حجم خسائر الاحتلال وحجم خسائر القطاع؟ " كيف يمكن فهم رفض المقاومة مبادرات التسوية مع الاحتلال رغم حجم الألم والمجاعة في القطاع؟ ".
ولعلّ القدرة على توليد هذا الحجم من الأسئلة وجعلها تبدو منطقيّةً قابلةً للنّقاش وشكلاً من أشكال حريّة التّفكير والطّرح، فهذا يعني بالضرورة فرض ثنائيّات فكريّة على حساب أحاديّة المعتقد وخلفياته الشرعيّة، فعندما يستسلم المتلقّي لثنائيّة أنّ الصمود أو الاستسلام مجرد وجهة نظر، وأنّ احتضان المقاومة أو خيانتها وجهة نظر! فهذا يحرّره نفسياً من تبعات التّخلي عن نصرة المقاومة ومظلوميّة الشعب الفلسطيني على المستويين الشرعيّ والعقائدي، لأنّ كلّ هذه الثنائيّات هي مجرّد وجهة نظر وليست أصلاً عقائديّاً.
- تنمية مَشاعر التّخلّي العَربيّ عن القضيّة الفلسطينيّة، وتظهير ردود الأفعال الشّعبيّة الفلسطينية التي تستنكر الصمت الرسميّ والشعبيّ إبان أيّ استحقاق عسكريّ أو سياسيّ فلسطيني، بما يخدم توسيع الفجوة بين الشعوب العربيّة والإسلاميّة وبينها.
أخيراً، يسعى الخطاب الإعلاميّ الغربيّ إلى فكّ الارتباط بين الشّعوب العربيّة وبين محدّداتها الدينيّة والثّقافيّة والسّياسيّة، بما يعزّز دعائم الغزو الثقافيّ وإلغاء عقيدة المقاومة.
ولكننا نجزم بأنّ المقاومة العقائديّة والحضاريّة والقيميّة بالإضافة إلى المقاومة العسكريّة والسياسيّة والأمنيّة والتي تتجلّى عبر ممارسات القوى الفاعلة في معركة "طوفان الأقصى"، لا بدّ لها أن تعيد تصويب البوصلة نحو قضايا الأمة وعلى رأسها تحرير القدس، وأنّ تطوّر أدوات الإعلام المقاوم وتصاعد أدائها وخطابها السياسيّ والإعلاميّ، قادر على توطين القدرة على فهم أبجديّات تدخّل الخطاب الإعلاميّ الغربيّ في مجتمعاتنا، وصناعة الاستراتيجيّات الحواريّة القادرة على تجاوز الآثار السلبيّة لهذا التّدخل، وإعادة تأهيل الأمّة لاستعادة دورها الحَضاريّ.