الوهم الفرنسي والدور المربَك
مع اندلاع حرب غزة، انصب التركيز الغربي على دعم "إسرائيل"، ومنع تمدد الحرب إلى لبنان، حرصاً على عدم تشتيت القوة الإسرائيلية بين جبهة غزة وجبهة جنوبي لبنان.
سواء حضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان أو لم يحضر، يتصدّر سؤال واحد: هل من فعالية للدور الفرنسي وسط الحراك الدائر حيال الوضع المتأزّم في لبنان؟
مَن يراقبْ تدفق الموفدين الفرنسيين إلى لبنان في الأسابيع القليلة الماضية، والتي شاع بعد ذلك أنه سيُتوَّج بزيارة لماكرون في 22 كانون الأول/ديسمبر، قبل أن تلغى، وأن تُرجَأ زيارة وزيرة الخارجية كاترين كولونا في الساعات الأخيرة، يُخَيَّلْ إليه أن من سبقوه أتموا المهمة، وأن عليه تتويج ختامها، والتي بدأت بزيارة كولونا في 16 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حاملة رسائل التحذير الإسرائيلية، إلى الممثل الشخصي لماكرون، جان إيف لودريان، حاملاً النصح الصارم بالتمديد لقائد الجيش، "حامي" أمن أوروبا من توافد النازحين السوريين عبر بحر المتوسط، إلى زيارة وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو، ليليه مباشرة مدير الاستخبارات الخارجية برنار إيميه، ثم وفد دبلوماسي - دفاعي مشترك، برئاسة فريدريك موندوليني، المدير العام للشؤون السياسية والأمنية في وزارة الخارجية، والذي حط في بيروت بعد زيارة للتو لـ"إسرائيل".
بداية، مع اندلاع حرب غزة، انصب التركيز الغربي على دعم "إسرائيل" و"حقها المشروع في الدفاع عن النفس"، ومنع تمدد الحرب إلى لبنان، حرصاً على عدم تشتيت القوة الإسرائيلية بين جبهة غزة وجبهة جنوبي لبنان. وهذا كان الموقف الفرنسي الواضح والفظ، إلى أن تحوّل الرأي العام الغربي، الأمر الذي دفع باريس إلى تأييد قرار وقف النار في مجلس الأمن الدولي، والذي أسقطه الفيتو الأميركي، كما في كل مرة يرتبط الموضوع بمصالح "إسرائيل".
وعلى رغم أن الفرنسي مصرّ على الإيحاء في أن حركته منسقة من ضمن حراك أميركي - فرنسي، بتفويض من اللجنة الخماسية، فإن العارفين لا يرون في هذا إلاّ محاولة إيجاد مكانة لفرنسا ودور أعجز مما تحاول إيهامه، بحيث إن خسارات حراكها تتتالى منذ انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020 إلى اليوم.
عنوانان حملتهما فرنسا: الوضع العسكري عند الحدود، والتمديد لقائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون. وإذا كان الموضوع الثاني طُوي مع تمديد عام لمن هم برتبتَي عماد ولواء عبر قانون في المجلس النيابي، فإن الأول يبقى مفتوحاً ما دام حزب الله على الحدود.
يربط المطلب الغربي بوقف الضغط العسكري من جبهة جنوبي لبنان بمجريات الحرب على غزة، واستمرار العدو الإسرائيلي في احتلاله أراضيَ لبنانية في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وأجزاء من بلدة الغجر، بالإضافة إلى النقاط الثلاث عشرة المتحفظ عنها على امتداد "الخط الأزرق"، عند الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة.
وبينما تقدّم القرار الأممي 1701 في الطروحات الفرنسية و"وجوب احترامه من جانب حزب الله"، ويقضي بإخلاء المنطقة جنوبي نهر الليطاني من أي وجود مسلح للحزب، وتسلم الجيش اللبناني وقوات الطوارئ وحدهما مسؤولية الأمن وحفظ السلام في جنوبي لبنان، بالإضافة إلى حديث عن منطقة عازلة بحماية فرنسية عند طرفي الحدود، من أجل طمأنة المستوطنين الذين تركوا مستوطناتهم حتى على بعد 8 كيلومترات جنوباً في "الداخل الإسرائيلي"، ثمة من يتحدث عن أن الفرنسيين حملوا إلى المسؤولين اللبنانيين تهديدات صريحة، مفادها أنه إذا ما استمر حزب الله في إشغال العدو عند جبهة الجنوب، فستوسع "إسرائيل" اعتداءاتها لتشمل، بالإضافة إلى الجنوب، مناطق ثقل الحزب في البقاع اللبناني الآمن، مع تهديد باستهداف الضاحية الجنوبية لبيروت إذا ما استمر تساقط صواريخ المقاومة الإسلامية اللبنانية، وطالت "تل أبيب".
تكاد يكون نادراً من المعنيين من يحمل الطروحات الفرنسية على محمل الجد، وهذا ناتج من اقتناع بأن الفرنسي أعجز من أن يؤدي دوراً بهذا الحجم، وأن دائرة حراكه تقتصر على ما تسمح به الولايات المتحدة الأميركية من هامش في الوقت المستقطع، وأن الوهم الذي يعيشه ماكرون يعرف جيداً أن لا نتائج يرجى منها ما لم يكن جائزاً له المكان المتاح في العملية الشرق أوسطية بالتنسيق مع الأميركي المنصرف إلى ترتيبها مع أكثر من طرف مؤثر، بينها طهران، مختصراً بذلك المسافات.
إن العدو الإسرائيلي مصمم على استكمال الحرب على غزة، الأمر الذي يعني أن أي حل أو تسوية إقليمية ستُبنى على نتائج المعارك هناك، والمقاومة الفلسطينية بدورها عازمة على التصدي وتسطير الملاحم والبطولات، التي تقضي مع إطالة عمر المواجهة، على أي واقع لمصلحة المحتل. وكما في غزة، كذلك الأمر في الجبهات المساندة، من جنوبي لبنان إلى اليمن إلى العراق.
وإذا كانت الجهود منصبّة على عدم توسع الحرب، فإن مؤشرات قرب نهايتها، ستكون في لبنان مساحة منها، تبدأ عند زيارة جديدة للموفد الرئاسي الأميركي أموس هوكشتاين، عراب الترسيم الحدودي، بحيث إن الترسيم البحري ما زال صامداً بعد أن دخلت الحرب شهرها الثالث، وهو مؤشر سيؤسس ترسيماً برياً قد يحين موعده في أي وقت، وحينها تكون بدايات النهاية.