الكيان الصّهيوني: عامٌ من التيه

يدرك العدوّ أنّه مهما استنفر من قوّاته العسكريّة سيعجز عن وضع حدٍّ لرحلة التيه التي بدأت تزداد أكثر منذ تصاعد العمليّات في الضّفة التي أعلنت معركة تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.

  • الصواريخ من غزة.
    الصواريخ من غزة.

آمل أن يستيقظ رئيس الحكومة الإسرائيلي ليدرك أنّ "إسرائيل" ما هي في الحقيقة إلّا فلسطين، وأنّ الصّواريخ التي تنطلق من غزّة هي رسالة محبّةٍ من السّكان الأصليين إلى قراهم وبساتينهم وحقولهم المسروقة".

بتلك العبارة ختم الناقد والمؤلّف الموسيقي اليهودي جلعاد آتزمون كتابه "من التائه" الصّادر عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر. آتزمون المولود في "تل أبيب" هو من عائلةٍ يهوديّةٍ علمانيّةٍ نشأ في بيئةٍ صهيونيّة متطرّفةٍ فجدّه كان أحد أبرز قادة عصابة الهاغاناه الإرهابيّة التي كان لها الدّور الأكبر في أكبر الجرائم وعمليّات التّطهير العرقيّ والإبادة الجماعيّة بحقّ الفلسطينيين. 

عايش عازف الساكسفون أزمات الكيان، وخدم في "جيش" العدو عام 1982 وعايش اجتياح الكيان الصّهيوني للبنان، مكتشفاً الأكذوبة الكبرى وزيف الكيان الذي وصفه باللاإنساني واللا سامي مدركاً أنّه محتلٌّ ومغتصبٌ لأرض فلسطين، مشيراً في كتابه: "استوعبت الحقيقة المدمرة أنّه في العام 1948 لم يترك الفلسطينيّون بيوتهم طواعية، بل تمّ تطهيرهم عرقيّاً على يد جدي وفصيله، وبدأت أدرك أنّ التّطهير العرقي لم يتوقف أبداً في إسرائيل بل اتخذ أشكالاً أخرى". 

اكتشافه للحقيقة دفعه إلى ترك الكيان الصّهيوني متجهاً إلى أوروبا بعدما تخلّى عن جنسيّته الإسرائيليّة. موقف آتزمون لم يكن متقدّماً كثيراً عن غيره من أسلافه المعارضين للصّهيونيّة أمثال مؤسّس الجامعة العبريّة في القدس، وأوّل رئيس لها يهوذا ليون ماغنيس (1877–1948)، الذي اعترض على تقسيم فلسطين إلى دولتين، أو موقف الفيلسوف الصّهيوني مارتن بوبر (1878–1965) الذي اعترض على تكوين دولةٍ يهوديّةٍ، وطالب بإقامة دولةٍ تضمّ الفلسطينيين واليهود المهاجرين.

قد يبدو مختلفاً نوعاً ما موقف الكاتب والصّحافي اليهوديّ الأميركي بيتر بينارت بدحضه المقولة التي تساوي بين مناهضة الصّهيونية ومعاداة السّامية، إذ لا يمكن أن يكون الانتصار لإنسانيّة الفلسطينيّين عداءً للسامية.

كلّ تلك المواقف لم تؤثّر في سياسات الكيان الصّهيوني ولم تؤدِ إلى إعادة النّظر في ممارسته الإرهابيّة بحقّ الفلسطينيين، ولم تردعه عن احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينيّة ومصادرتها، والإصرار على ارتكاب المجازر وقمع الشّعب الفلسطينيّ ومحاولته لتهويد القدس وإحداث تغيير ديموغرافي. منذ احتلال فلسطين.

مع بداية تحوّل اليهود إلى أقليّةٍ، ثمّة حقيقة ثابتة سرّعت في ارتفاع نسبة هجرة المستوطنين المعاكسة، رغم ما تبذله الوكالة اليهوديّة من جهدٍ كبيرٍ في استقطاب مستوطنين جدد في السّنوات الأخيرة مع ارتفاع أعداد المهاجرين إلى أوروبا وأميركا، تلك الحقيقة التي فرضت معادلات الرعب على المستوطنين من خلال تصعيد العمليات في الضّفة الغربيّة والقدس بشكلٍ أرعب قيادات الكيان السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة التي باتت تراكم هزائمها وفشلها الذّريع في الحدّ من العمليات أو القضاء عليها، وبغضّ النظر عن سياسة الإصلاحات القضائيّة التي تبنّتها حكومة نتنياهو.

فإنّ العنصر الأوّل والأهمّ بالنّسبة إلى المستوطنين هو الأمن الذي باتت تفتقده أغلبية المستوطنين من غلاف غزة إلى الضّفة والقدس والنقب وعلى امتداد فلسطين حيث فرض المقاومون الفلسطينيّون معادلاتهم من خلال عمليّات الأسود المنفردة، أو العمليّات الجماعيّة التي اتخذت أساليب جديدةً ونوعيّةً ومتطوّرةً باستهداف المستوطنات بالصّواريخ أو صليات الرّصاص أو تفجير العبوات.

 وهذا ما أكده المراسل العسكريّ لإذاعة "الجيش" الصّهيوني دورون كدوش في تقرير له حول موجة العمليّات المستمرّة منذ أكثر من عام، والتي وصفها بـ"كرة الروليت" المتدحرجة، مضيفاً بأنّ لا أحد يعرف أين ستقع الكرة، مثل لعبة الروليت"، في "انتفاضة السكاكين" خلال عامي 2015-2016 كانت السّمات واضحة، حيث تسلح الأفراد بالسّكاكين، وخرجوا لتنفيذ عمليّات من دون وجود إنذاراتٍ مُسبقة، وتركّزت العمليّات بمعظمها في منطقتي باب العمود وغوش عتصيون - حتى الموجة الحالية من العمليّات، والتي بدأت في آذر/مارس 2022 بعمليات في الخضيرة وبني براك وبئر السّبع، كانت لها سماتٌ واضحةٌ وظاهرةٌ، حيث انطلق معظم منفّذيها من منطقة شمال الضفة الغربية، واستخدموا أسلحةً ناريّةً من صُنع محلي.

وكانت العمليات تستهدف طرق المستوطنات في الضّفة الغربيّة، إذ قضى ثلث القتلى من موجة العمليّات الحالية على هذه الطّرق. واقع فرضته المقاومة في فلسطين أسقط عقيدة نتنياهو الأمنيّة وقادته السّياسيّين والعسكريّين الذين تضيق أمامهم الخيارات في ظلّ تصاعد عمليّات المقاومة حتى بات الكيان الصّهيوني يدرك يقيناً بأنّه عاجزٌ عن وضع حدٍّ للعمليّات في الضّفة. فعمليّات الاغتيال للقادة في الداخل سيدفع ثمنها باهظاً واستهداف قادة المقاومة في الخارج كما دعا بعض قادة العدوّ لاغتيال صالح العاروري لها حساباتها، ليس على مستوى الساحة الفلسطينيّة بل على امتداد ساحات المقاومة.

 يدرك العدوّ أنّه مهما استنفر من قوّاته العسكريّة والأمنيّة ووحداته الخاصّة ومهما صعّد من عمليّات القمع والإرهاب وحملات الاعتقال والتهجير سيعجز عن وضع حدٍّ لرحلة التيه التي بدأت تزداد أكثر منذ تصاعد العمليّات في الضّفة التي أعلنت معركة تحرير فلسطين من البحر إلى النّهر، واجتثاث هذا الكيان السّرطانيّ من الوجود.