القوة الناعمة الكوبية: درس في السياسة والاقتصاد والأخلاق

أدركت كوبا منذ الثورة عام 1959 أن لا شيء ثابت في السياسة، وأنه لا بد من تبني نهج يحول دون انهيار كوبا حتى لو انهار الاتحاد السوفياتي، وأيقنت أن شيئاً واحداً قادر على صنع المعجزات، وهو العلم.

  • القوة الناعمة الكوبية: درس في السياسة (أرشيف).
    القوة الناعمة الكوبية: درس في السياسة (أرشيف).

يعيش العالم حالة من التعقيد والتشابك في المصالح، وفوضى في كل شيء، من فقدان الاستقرار والتعاون إلى زيادة الاضطرابات والصراعات، وصولاً إلى فوضى الأدبيات والنظريات السياسية، فلا صديق ولا عدو ولا حتى المصالح ثابتة في السياسة، كما أنه من منظور الجيوبوليتك لم يعد هناك بعيد أو قريب بل الجميع ضمن المجال الحيوي، والجميع ضمن دائرة الاهتمام، والجميع يشكل في آن واحد فرصة وتهديداً، فلا شيء أو نظرية ثابتة لتخطي تلك الأشواك السياسية.

أدركت كوبا منذ الثورة عام 1959 أن لا شيء ثابت في السياسة، وأنه لا بد من تبنّي نهج يحول دون انهيار كوبا حتى لو انهار الاتحاد السوفياتي، وأيقنت أن شيئاً واحداً قادر على صنع المعجزات، وهو العلم والتكنولوجيا، كقوة ناعمة في السياسة الخارجية، لذا اتخذت التضامن والتعاون سلوكاً ثابتاً في دبلوماسيتها تجاه العالم الخارجي عبر المشاركة في مشاريع وبرامج واكتشافات علمية وبراءات اختراع أبرزها علاج لسرطان الرئة المتقدم، وعلاج السحايا "ب"، الذي تشاطرته مع القوة العظمى في العالم، الولايات المتحدة الأميركية، وأن تتشاطر لقاحاتها الكوبية "عبدالله" و "سوبيرانا" لمكافحة وباء كوفيد-19، مع (30) دولة، فضلاً عن طرحها مبادرات لمحو الأمية مثل البرنامج التعليمي "نعم أنا أستطيع"، والبرنامج الطبي "عملية المعجزة"، لتأهيل طب العيون، لتسهم في تعليم ومحو الأمية، وإعادة تصحيح البصر لملايين البشر في دول القارة اللاتينية ودول أخرى.

لتتمكن كوبا من إشباع منسوب ضميرها الإنساني لدى شعوب ودول العالم، وفي الوقت ذاته تتمكن من تجنب مصير الانهيار بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، حينها راهن الكثيرون على أن ذلك سيكون حتمياً، لكن، صمد النظام الكوبي ولم ينهر على مدى 65 عاماً، وعلى الرغم من محاولات إسقاطه من قبل الولايات المتحدة الأميركية في خليج الخنازير عام 1961، وبعدها التهديد باجتياح عسكري عام 1962، في أزمة الصواريخ الكوبية، تبعها فرض الحصار الاقتصادي والتجاري على كوبا بغية عزلها إقليمياً ودولياً، تلاه طردها من منظمة الدول الأميركية (OAS)، التي تضم (34) دولة في قارة الأميركيتين، لتبوء كل تلك المحاولات بالفشل، وتبقى كوبا صامدة وتكسر العزلة وتفتح قنوات الاتصال مع دول العالم ليتغلغل جيشها الأبيض (الأطباء والمسعفون) للعمل في قواعدها الطبية في أكثر من (160) دولة.

كما أسقطت كوبا بفعل قوتها الناعمة "نظرية الدومينو السياسية"، وهي نظرية جيوساسية ظهرت في الحرب الباردة، أقرها الرئيس الأميركي أيزنهاور في خطاب ألقاه عام 1954، تفترض النظرية أن سقوط دولة واحدة تحت تأثير الشيوعية سيؤدي إلى تأثير متسلسل، حيث تسقط الدول المجاورة واحدة تلو الأخرى، تماماً مثل قطع الدومينو المتساقطة، وحاولت الإدارات الأميركية رسم صورة نمطية لدى دول العالم وبالأخص قارة أميركا اللاتينية، بأن هناك مخاوف من انتشار الشيوعية والاشتراكية في المنطقة، لذا فرضت حصاراً على كوبا وعزلتها إقليمياً، وطردتها من منظمة الدول الأميركية (OAS)، لكن كوبا ومن خلال إرسال الأطباء إلى الخارج، ونشر الاكتشافات العلمية، ومن خلال إحدى جامعاتها الطبية "كلية أميركا اللاتينية للطب" في هافانا، والتي أسهمت في تخرج آلاف الطلاب من مختلف الجنسيات ومن (15) دولة من القارة اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، دراستهم وإقامتهم كانت بالمجان، ليعودوا إلى بلدانهم ويمارسوا تخصصاتهم الطبية.

فبددت كوبا المخاوف ونشرت المعرفة، والذي بدوره أدى إلى إزالة الكراهية، ما أدى إلى إزالة حالة العداء والعنف تجاه كوبا وشعبها، وكأن كوبا كانت على دراية تامة بمآلات المقولة الشهيرة للعالم والفيلسوف العربي ابن رشد: "الجهل يؤدي إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الكراهية، والكراهية تؤدي إلى العنف، هذه هي المعادلة ببساطة". لتبرهن كوبا بانها اكبر من النظريات السياسية.

أرسلت كوبا الفرق الطبية، التابعة للواء الطبي "هنري ريف"، الذي أسسه كاسترو عام 2005، والاسم جاء تيمنا باسم أميركي الجنسية، كوبي الهوى، قاتل إلى جانب الثوار الكوبيين في حروب الاستقلال عن إسبانيا، وتعمل تلك الفرق الطبية في ثلاث قارات أفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية، لتقديم المساعدة والعون إلى الدول الفقيرة للتصدي للكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات وانتشار الأوبئة والأمراض،  حيث كانت كوبا أولى الدول التي تصدت لوباء إيبولا عام 2014، في القارة الأفريقية، وكانت من أوليات الدول التي تصدت لوباء كوفيد-19 عام 2020.

حيث استعانت إيطاليا بكوبا بعدما انتهت حلول الأرض وفوضت أمرها إلى السماء، كما استعانت فرنسا بكوبا للدخول إلى الدول والجزز في البحر الكاريبي، التابعة لها، لغرض مساعدتها ضد الوباء، ومن قبل ساعدت الكوادر الطبية باكستان في زلزالها، وهايتي في زلزالها، وغيرها الكثير من الدول حتى وصل عدد العاملين في المجال الصحي الكوبي والمرسلين إلى الخارج (600) ألف بين طبيب ومساعد، بحسب بيانات وزارة الخارجية الكوبية، لتحظى كوبا بعلاقات تعاون وصداقة مع دول العالم، وانعكس ذلك في تصويت 191 دولة لمصلحة قرار الأمم المتحدة لإنهاء الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي المفروض على كوبا من قبل الولايات المتحدة الأمركية، وحظي القرار بتأييد واسع ولم يعارضه سوى دولتين فقط هما الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.

ثانياً: القوة الناعمة الكوبية : درس في الأخلاق

أشارت صحيفة الباييس الاسبانية (EL Pais) في مقال عام 2016، بعنوان "من أنغولا إلى إيبولا"، إلى الحضور الكوبي في أفريقيا، لتكون كوبا أول دولة في العالم تستجيب لنداء التصدي لهذا الفيروس في غرب أفريقيا عام 2014، حيث جنّدت الطواقم الطبية لتخاطر بحياتها لنجدة الملهوفين والمصابين في القارة الأفريقية.

وتكررت المواجهة الطبية بين أطباء كوبا والأوبئة مرة أخرى عام 2020، إذ كانت كوبا من أوائل الدول استجابة لنداء منظمة الصحة العالمية عام 2020 للتصدي لجائحة كورونا (كوفيد-91)، والذي نشر الرعب في العالم، وأغلقت الدول حدودها، وأغلقت السفارات أبوابها أمام هذا القاتل الفيروسي، الذي يكاد يرى بالمجهر، والذي لم تنفع معه الترسانات النووية، ولا الحديد والنار، ولا طائرات الدرون، ولا الصواريخ البالستية، حتى أن بعض الدول صرح بأن "حلول الأرض انتهت، وأن الأمر متروك للسماء"، لتبرز الكتائب الكوبية البيضاء للتصدي لهذا الوباء وإنقاذ الأرواح البشرية. وعلى مدى العام 2020 قدمت الألوية الطبية الكوبية خدماتها في (40) دولة في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وأفريقيا، وآسيا، والشرق الأوسط.

وفي ظل الأزمة العالمية في احتكار اللقاحات وأقنعة التنفس والكمامات، وفي ظل الصراع مع الفيروس القاتل واحتكار التكنولوجيا الطبية وتوظيفها كسلاح سياسي بين الدول، تمكنت كوبا من تصنيع لقاحين اثنين الأول "سوبيرانا-2"، (Soberana2) و الثاني "عبدالله" (Abdala)، وأظهرت النتائج فعالية الأخير بنسبة 90%، وبذلك تكون كوبا البلد المحاصر من جيرانه، والبلد الوحيد في قارة أميركا اللاتينية والكاريبي، الذي استطاع تطوير لقاحين اثنين من أصل (23) لقاحاً تمّ اختراعها في العالم كله كمضاد لكورونا، وسارعت كوبا إلى التعاون الجماعي مع (30) دولة لتتقاسم معهم اللقاحات، ومنح اللقاح اسم (عبد الله) تيمناً باسم بطل عربي لأحد الأعمال الأدبية للشاعر والأديب والمفكر والسياسي الكوبي خوسيه مارتي (مسرحية عبد الله)، والتي ألفها عام 1869. ويعد مارتي رمز الاستقلال الكوبي، وملهماً للثورة الكوبية، وأقر الدستور الكوبي الجديد لعام 2019، بأن المثل العليا لخوسيه مارتي تعد أسس النظام الكوبي الحالي.

وفي السياق ذاته، أرسلت كوبا كوادرها الطبية إلى أوكرانيا حينما تعرضت لحادثة تشرنوبل النووية عام 1986، واستقبلت كوبا (139) طفلاً أوكرانياً مصاباً من الحادث برفقة والديهم لتلقي العلاج والإقامة بالمجان، وحتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم تعلق كوبا برنامج الإغاثة ، حيث استقبلت ما يقارب (26) ألف مصاب أوكراني، وتكفلت بتكاليف العلاج والإقامة والطعام ولم يدفع المرضى أو أهاليهم شيئاً، وقُدرت تكلفة الأدوية وحدها بحوالي 350 مليون دولار أميركي. فكم هو عظيم عطاء كوبا، وكم هي مغيّبة تلك الجزيرة ومظلومة في أن يترك أطفالها وشعبها يتضورون جوعاً ويعانون من أطول حصار شهده العالم.

عملت كوبا على تصدير العلوم إلى العالم، عبر تسخير أكبر كلية طب في العالم، وهي "كلية أميركا اللاتينية للطب"، والموجودة في العاصمة هافانا، ليرتادها أبناء المجتمعات الفقيرة والفلاحين وطلاب من دول العالم الثالث، والدول الفقيرة ويتلقوا تعليماً مجانياً، يشمل الإقامة والطعام والكتب والمعدات اللازمة، وتخرج آلاف الأطباء في تلك الكلية من 100 دولة بمختلف الجنسيات، ولغاية العام 2000 كانت الدراسة بالمجان، لكن بعدها بدأت كوبا تطلب رسوماً من بعض الدول بسبب العقوبات الاقتصادية والحصار الأميركي، وعن ذاك الكرم الكوبي عبّرت، المديرة السابقة لمنظمة الصحة العالمية، مارغريت تشان قائلةً: "لا أعرف أي كلية طب أخرى تقدم كل هذا لطلابها بالمجان.

لا أعرف أي كلية طب أخرى تعتمد سياسة قبول تمنح الأولوية للمتقدمين الآتين من مناطق فقيرة، الذين يعرفون معنى أن تعيش بلا قدرة على الوصول لرعاية صحية أساسية. على غير العادة، أصبحت ميزة أن تكون فقيرًا، أو أنثى، أو من السكان الأصليين. هذه هي الأخلاقيات المؤسسية التي تجعل كلية الطب هذه فريدة من نوعها". وهذه شهادة على درس القيم الكوبية في عالم تسوده النفعية والفوضوية.

ثالثاً: القوة الناعمة الكوبية: درس في الاقتصاد

تدر الدبلوماسية الطبية الكوبية أموالاً بمليارات الدولارات، حيث أبرمت كوبا اتفاقاً مع فنزويلا بعنوان "النفط مقابل الأطباء"، تدفع بموجبه 100 ألف برميل نفط يومياً بأسعار مخفضة إلى كوبا مقابل عمل آلاف الأطباء الكوبيين في الأحياء الفقيرة الفنزويلية.

وكذلك تم توقيع اتفاق مع البرازيل عام 2013 بعنوان "مزيد من الأطباء"، لعمل أطباء كوبيين في الأحياء البرازيلية مقابل أجور (3600)، دولار لكل طبيب، كذلك تدفع البرتغال (50) ألف يورو سنويا  لقاء خدمات الأطباء الكوبيين، فضلاً عن توقيع اتفاقات مع دول أخرى في آسيا وأفريقيا. لتصل العوائد من تلك الاتفاقات إلى نحو 11 مليار دولار سنوياً لمصلحة الخزينة الكوبية.

كل تلك الدروس في السياسة والأخلاق والاقتصاد لم تبرئ ساحة السياسة الطبية والصحية الكوبية من التشكيك فيها من قبل الآخرين، إذ حاولت الولايات المتحدة ودول أخرى إفشال هذه الدبلوماسية الصحية، حيث جرى نعت الأطباء والكوادر الطبية الكوبية بأنهم ماركسيون شيوعيون وأنهم يدعمون الدكتاتورية الكوبية، فجرى طردهم من بعض الدول نتيجة لتحريض الولايات المتحدة الأميركية، حتى أن إدارة الرئيس الأميركي بوش الابن أنشأت عام 2006، برنامجاً بعنوان "برنامج الإفراج المشروط للطبيين الكوبيين" لإغواء وإغراء العاملين الكوبيين في المجال الصحي في الخارج على الانشقاق وترك عملهم والمجيء إلى الولايات المتحدة الأميركية.

مارست كوبا القوة الناعمة في أبهى صورها، وبشكل يلفت الانتباه، ويستحق الإشادة، وهذا الذي حصل بالفعل، حيث تم تكريم الفرق الطبية الكوبية من قبل منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية بالأوسمة والنياشين والميداليات الذهبية، إذ حصلت الفرق الطبية الكوبية (الأطباء والمسعفون والعاملون في القطاع الصحي)، على أكثر من (12) تقديراً دولياً، من بينها، الميدالية الذهبية من منظمة الصحة العالمية عام 1998، لاتخاذ كوبا أنموذجاً عالمياً للرعاية الصحية المستنيرة، وفي عام 2009 منحت الجمعية العامة للأمم المتحدة كوبا "الميدالية الذهبية" كونها تُعد نموذجاً للتضامن"، ويُعد التكريم  إقراراً عالمياً بكوبا وإيثارها وسياستها الناعمة.

إن الدبلوماسية الطبية، والتي هي أحد فروع وتجليات الدبلوماسية العلمية، صنعت المعجزات في التقارب والتعاون بين كوبا وخصومها، كما أن تبني كوبا للدبلوماسية العلمية في محيطها الإقليمي الرافض للفكر الشيوعي والاشتراكي، جنّبها العنف والكراهية، وجنّبها الانهيار، وأعانها على الصمود على مدى 7 قرون تقريباً أمام تحدي الجوار الصعب للولايات المتحدة الأميركية، والحصار المفروض عليها، ومكّنها من تحسين صورتها وكسب ثقة العالم، لتحظى بتصويت 191 دولة لمصالحة إنهاء حصار مفروض عليها من قبل أقوى دولة في العالم، فأي دروس أبلغ من تلك الدروس في السياسة والاقتصاد والأخلاق، والتي يجب أن تُدرس في تخصصات وفروع مجالات العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ولا سيما أن العالم يشهد تدافع الهويات والخوف من الآخر والذي يؤدي إلى العنف والحروب في نهاية المطاف، فما دمت لا تفصح لي عن نواياك، فأنا أجهلك، وحين أجهلك أخافك، وحين أخافك أعلن الحرب عليك لأواجه مخاوفي وأدفع الضرر، هذه هي المعادلة ببساطة.