الذكاء الاصطناعي في خدمة آلة القتل الإسرائيلية
تجربة حرب غزة 2023 والتنقلات العسكرية في لبنان 2024 رسمت ملامح واقعية لا يمكن تجاهلها عن كيفية تحويل الذكاء الاصطناعي إلى أداة قتل وترويع لا تهدد فقط حياة المدنيين، بل تهدد بقاء القيم الإنسانية نفسها.
-
الهجمات الذكية تستهدف تدمير روح المقاومة.
على مدار العقود الماضية، كان الذكاء الاصطناعي يتحول تدريجياً من أداة تقنية حديثة إلى سلاح عسكري محوري، استخدمه العدو الإسرائيلي كرافعة لهيمنته القمعية في الحروب التي يخوضها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة وضد اللبنانيين في جنوب لبنان.
وفي أحدث حلقات هذا الاستخدام المكثف والمتطور، برزت حرب غزة لعام 2023، وتصاعد التوترات في لبنان خلال 2024، كمثالين صارخين على كيفية استثمار الكيان الغاصب لتقنيات الذكاء الاصطناعي في تنفيذ عمليات قتل واسعة النطاق، وإحداث حالة من الترويع النفسي المستمرة، بطرق تفوق كل الإجراءات العسكرية التقليدية السابقة.
تجلت في عدوان غزة 2023 صورة مقلقة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في حرب مباشرة ضد السكان المدنيين، بعد أن دمج العدو بشكل أعمق وأوسع منظومات المسح الرقمي، الطائرات المسيّرة ذات الاستهداف الآلي، وأنظمة القصف الذكية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات الفورية للميدان.
هذه التقنيات لم تقتصر على توجيه ضربات أسرع وأكثر دقة، بل اتسمت بقدرة عالية على تنفيذ عمليات تدمير واسعة تشمل أحياء مدنية مكتظة بالسكان، من دون تمييز واضح بين المدنيين والمقاتلين، وهو ما زاد من الخسائر البشرية والمادية بشكل كارثي. وقد تجلى ذلك في مشاهد مؤلمة للأحياء السكنية التي انهارت تحت ضربات دقيقة لا تعرف هوادة، وضجّت وسائل الإعلام بمئات الشهادات التي تؤكد أن أنظمة الاستهداف الذكية أسهمت في تسريع وتيرة القصف والتدمير، مع تقليل هامش الخطأ الذي كانت فيه طبيعة العمليات التقليدية أكثر قابلية لتجنب استهداف المدنيين.
على المستوى التقني، استخدم العدو في هذه الحرب جيلًا متقدمًا من الطائرات المسيرة المزودة بذكاء اصطناعي قادر على رصد تحركات الفلسطينيين وتحليلها آنياً، مع توجيه ضربات أوتوماتيكية وفق معايير مبرمجة مسبقًا. كما زُوّدت مراكز القيادة بتحليلات ذكية للبيانات الاستخبارية التي جمعتها شبكات المراقبة الرقمية المنتشرة في كل أرجاء القطاع، ما خلق منظومة متكاملة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتعزيز قدرة القتل والتدمير بشكل غير مسبوق. هذه التقنيات سمحت أيضاً بتنفيذ هجمات مركزة في أكثر الأماكن أمانًا للسكان، ما خلق حالة من الخوف والرعب المستمرين ما يعمق المعاناة ويضرب في العمق البنية النفسية والاجتماعية للمدنيين.
أما في لبنان 2024، فقد شهد القتال تصعيدًا مهمًا استخدمت فيه قوات الاحتلال الذكاء الاصطناعي بطريقة مختلفة لكنها متكاملة مع ما يحدث في غزة، إذ استثمر الكيان الغاصب تقنيات متطورة في مراقبة الحدود وتنفيذ عمليات هجومية شبه مستقلة عبر طائرات مسيّرة وبنى تحتية رقمية عالية الأداء. ركزت هذه الحملات على مناطق مأهولة في جنوب لبنان، حيث تعمل الطائرات المسيّرة الذكية على رصد تحركات المقاومة اللبنانية بدقة متناهية، وتنفيذ ضربات ضد مواقع محددة بشكل سريع، غير أن ما يثير القلق هو استهداف منشآت مدنية ومدارس ومنازل قريبة من مناطق الاشتباك، وهو ما تسبب في وقوع ضحايا مدنيين وتخلل حالة الرعب والفزع مجتمعات بأكملها، خاصة في القرى الجنوبية.
هذه الهجمات الذكية لم تكتفِ بالتدمير الجسدي فقط، بل استهدفت أيضا تدمير روح المقاومة عبر توجيه ضربات متتالية لإرهاب السكان نفسيًا باستخدام تقنيات بث المعلومات المضللة وأساليب "التزييف العميق " Deepfake، التي تستخدمها وسائل الاحتلال لبث الفوضى والارتباك.
إن استثمار العدو الغاصب للذكاء الاصطناعي في قتل المدنيين وترويعهم يبرز ثلاثة محاور واضحة:
الأول، توظيف الذكاء الاصطناعي في تنفيذ عمليات تدمير دقيقة وسريعة تشمل الأحياء السكنية اليومية، مع غياب كامل للتمييز القانوني بين المدنيين والمقاتلين. فالهجمات التي استهدفت قطاع غزة في 2023 ومناطق جنوب لبنان في 2024 جاءت لتؤكد أن الآلة الذكية لا تراعي سوى تحقيق أهداف عسكرية بغض النظر عن الخسائر البشرية الفادحة.
الثاني، بنى العدو منظومة مراقبة واسعة النطاق قائمة على كاميرات متطورة وطائرات مسيّرة ذات أداء عالٍ، تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل المشاهد الحية وتحديد الأهداف بدقة، وتعزيز سرعة رد الفعل، ما يمكّن الاحتلال من شن هجمات مركزة ومباغتة تزرع الخوف وتقلص فرص النجاة لدى المدنيين.
الثالث، تطوير أنظمة هجومية شبه مستقلة تنفذ ضربات معقدة منفذة آلياً، تتحكم بإيقاع ساحة القتال أكثر من الرؤية البشرية المباشرة، وهذا ما شاهده العالم في المواجهات بين لبنان والكيان الغاصب حيث انتشرت هذه التقنية ولا سيما في العمليات التي استهدفت حزب الله والمرافق المدنية القريبة منه. هذه الطائرات المسيّرة وأنظمة القتال الذكية حولت ميادين المعارك إلى فضاء رقمي يتحكم فيه الذكاء الاصطناعي، ما يصعب معه مساءلة أصحاب القرار عن الفظائع التي ترتكب.
دعمًا لهذه الإمكانات القتالية المتقدمة، ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية بدور حيوي في تمويل وتطوير التقنية العسكرية التي يستخدمها العدو، إلى جانب شركات عالمية كبرى مثل "مايكروسوفت"، "أمازون"، و"جوجل"، التي وفرت البنية التحتية الرقمية والخدمات السحابية اللازمة لتشغيل وتحليل الكم الهائل من بيانات الاستخبارات. هذه الشراكات لم تقتصر على تزويد العدو بأدوات القتل الذكية فقط، بل سمحت له بتجاوز حدود التدخل البشري المباشر وتحويل العمليات الحربية إلى معارك رقمية تفوق فيها الذكاء الاصطناعي على قرارات المقاتلين التقليدية.
على الصعيد القانوني والإنساني، تعتبر التجارب في غزة 2023 ولبنان 2024 انتهاكات صارخة لمبادئ القانون الدولي الإنساني، خاصة حظر استهداف المدنيين، والتمييز بينهم وبين المقاتلين، وحماية حقوق الإنسان في النزاعات المسلحة. فمفهوم "القصف الذكي" أصبح وسيلة لتبرير عمليات قتل ممنهجة في أحياء مأهولة، ما تسبب في مشاهد كارثية من الويلات والمعاناة. لعل الأخطر هو استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب النفسية من خلال التلاعب بالمعلومات و«التزييف العميق»، الذي يزيد من الفوضى ويبث الرعب والتيه بين المدنيين، ما يحولهم إلى أهداف إضافية في هذا الصراع.
هذه الحالة المأساوية تحكي عن قفزة نوعية معادية في كيفية استخدام العلم والتقنية، من أدوات خدمة الإنسان والتنمية إلى أذرع قتل دقيقة بيد الكيان الغاصب، في إطار سياسة استيطانية وقمعية تهدف إلى السيطرة والطمس. رغم ما يُروجه من ادعاءات عن هدف تقني للردع والتحكم في العدو، فإن نتائج الاستخدام المفرط للذكاء الاصطناعي بين غزة ولبنان تكشف حقيقة متجذرة في الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها المدنيون، ومدى هشاشة القوانين الدولية أمام غياب إرادة تطبيقها على الأرض.
انطلاقًا من ذلك، يصبح التحدي أمام المجتمع الدولي مكتملاً وواضحاً: فرض قيود صارمة وموحدة على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في النزاعات المسلحة، بما يمنع استغلالها لخدمة مشاريع الاحتلال والتدمير. يجب وضع أطر قانونية دولية تحمي المدنيين، وتحدد المسؤوليات القانونية بدقة، مع مد جسور الشفافية إلى الشركات التقنية الكبرى التي تمد الاحتلال بالأدوات الرقمية التي تستخدم في قتل الأبرياء.
ينبغي أن تتحول هذه القوانين إلى أدوات فعلية، لا مجرد نصوص نظرية، عبر مراقبة تطبيقها وتعزيز آليات المساءلة الدولية، وتوثيق الانتهاكات بحيث لا يتهرب الكيان الغاصب من مسؤوليته عن الجرائم المرتكبة باستعمال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. كما يستوجب الأمر توعية الرأي العام العالمي بخطورة هذا التحول الذي يضرب جوهر القيم الإنسانية ومستقبل السلام.
في الخلاصة، إن تجربة حرب غزة 2023 والتنقلات العسكرية في لبنان 2024 رسمت ملامح واقعية لا يمكن تجاهلها عن كيفية تحويل الذكاء الاصطناعي إلى أداة قتل وترويع لا تهدد فقط حياة المدنيين، بل تهدد بقاء القيم الإنسانية نفسها.
من هنا، تأتي الحاجة الملحة لأن يعمل العالم بجدية على وضع معايير صارمة تمنع تكرار هذا النوع من الحروب القائمة على التكنولوجيا القاتلة، وأن تكون الشرعية الإنسانية فوق كل الاعتبارات التقنية أو السياسية.
فقط بذلك يمكن للعالم أن يحمي المدنيين ويبني مستقبلًا يرتكز على حماية الحقوق والكرامة، لا على تدمير حياة الأبرياء، ويحول الذكاء الاصطناعي، الذي كان حلمًا بعالم أفضل، إلى قوة تُسهم في بناء السلام والتنمية، لا حسم الصراعات بمعايير قمعية تستهدف حياة الناس يوميًا تحت ذريعة التقدم التكنولوجي.