الحرب الناعمة.. سَتَفْعَلُ ما أُريد بإرادَتِكَ
تشكل الآفات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ساحة خصبة للحرب الناعمة، فيقوم العدو بتنظيم أنشطته وفعالياته عبر تشخيصه بؤر آفات المجتمع المستهدف، ويعمل على توسيع رقعة تحركه من خلال إيجاد انحرافات وآفات جديدة.
منذ بداية التاريخ، قامت الدول بممارسة التأثير والنفوذ على غيرها من الدول، وذلك من أجل تحقيق غايات ثقافية وسياسية وعسكرية واقتصادية، سواء بواسطة القنصليات والسفارات أو عبر الطرق الثقافية والإعلامية المتعددة الأوجه، وهو ما تقوم به الأحزاب والمنظمات والكيانات في إطار التأثير السياسي والأيديولوجي، وتمارسه أيضاً الشركات، وخصوصاً المتعدّدة الجنسيات منها، في مجالات الاقتصاد والتجارة، وصولاً إلى دور الأفراد في علاقاتهم الشخصية والاجتماعية.
وليس جديداً أن تقوم الدول والجيوش بممارسة الحرب النفسية والدعاية ضد أعدائها بهدف إرعابهم وإخضاعهم، وبالتالي التسليم بطلبات تلك الدول والجيوش. وقد تجلى ذلك مع دول الاستعمار، حيث كان التأثير اللغوي والثقافي والاجتماعي في المستعمرات، كما في النموذج الفرنسي مع حالة الجزائر في القرن الماضي.
أمّا الجديد، فهو استبدال الحروب الكلاسيكية بما يُسمى الحروب الصامتة التي تتميز بمدى ونفوذ وتأثير عالٍ جداً من حيث المنهجية والتخطيط والإعداد والتجهيز بغية تفريغ المجتمعات من داخلها وإضعافها وصولاً إلى تغيير الأنظمة المعادية للدول التي باتت تعتمد هذا النمط من الحروب، وخصوصاً الدول الغربية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية، وحتى أيضاً ضرب وتهديد بيئة أو مجتمع مقاوم لسياساتها.
وبما أن الإنسان يمتلك جهازاً سلوكياً قابلاً للشعور بالخطر والانفعال فقط أمام التهديدات المحسوسة والمرصودة بالعين المجردة، ولأن الحرب الناعمة تحتاج إلى البصيرة والمعرفة الإدراكية، تُؤدي الحرب الناعمة عند وقوعها المباغتة والخداع والمفاجأة.
هذه النتائج توجب غياب الاستعداد لدى الطرف المستهدف وتشوش البصيرة، ما يؤدي إلى حالات من الإرباك والتفكك وشق الصفوف، وبالتالي تحقيق ما كانت الحروب العسكرية الكلاسيكية تبتغيه. ولفهم مصطلح الحرب الناعمة أكثر، نطرح السؤال التالي:
كيف نشأت نظرية الحرب الناعمة؟ وما الأدوات التي تعتمدها من أجل تحقيق الأهداف المرجوّة؟
الحرب بجيلها الجديد
تعد الحرب الناعمة صامتة بطبعها، فلا يُسمع فيها هدير الطائرات وأزيز القذائف ولا حتى أصوات توغل المشاة، أي أنها لا تُحدث ضجيجاً. وبالتالي هي متفلتة من القانون الدولي الذي يدور في إطار حل النزاعات ومفاوضات السلام والهدنة ووقف الأعمال الحربية، بل هي "جيل جديد" من الحروب يتسم بالضبابية والتعقيد.
1- صاحب نظرية الحرب الناعمة
هو جوزيف صموئيل ناي، أميركي وأستاذ العلوم السياسية وعميد سابق لمدرسة جون كينيدي في جامعة هارفرد. مؤسس مركز الدراسات الليبرالية الجديدة في العلاقات الدولية بالتعاون مع روبرت كوهين. تولى عدة مناصب رسمية، منها مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في حكومة الرئيس الأسبق بيل كلينتون ورئيس مجلس الاستخبارات الوطني. وقد اشتهر بابتكاره مصطلحي القوة الناعمة والقوة الذكية، إذ شكلت مؤلفاته مصدراً أساسياً في تطوير أساليب السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما.
هذا المصطلح الذي اخترعه جوزيف ناي جاء عندما ساءت سمعة الولايات المتحدة الأميركية بعد حرب أفغانستان وحرب العراق، وبلغت التكاليف مبالغ هائلة جداً ولم تتحمّلها الإدارة الأميركية، فتوصّل هذا الرجل مع غيره في المؤسسة الحاكمة إلى تفعيل ما يُسمى بالقوة الناعمة، أخذها من تركيبة الحاسوب، أي هاردوير وسوفتوير، أي القرص صلب والقرص الناعم، لينتج من اندماج هاتين القوتين قوة ثالثة هي القوة الذكية، فقال: لماذا لا يكون لدى الولايات المتحدة الأميركية قوة ذكية مثلها مثل الحاسوب؟ لهذا توصل جوزيف ناي عام 2004 في كتابه "القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية" إلى أن القوة الناعمة تهدف إلى جعل الآخرين يريدون ما تريد دون إرغامهم أو ترهيبهم.
التحول من القوة الصلبة في ميدان المعركة العسكرية، حيث التكاليف الباهظة بشرياً واقتصادياً وسياسياً، إلى القوة الناعمة في ميدان التفوق التكنولوجي والثقافي والإعلامي والسياسي للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها هو الهدف الأساس من هذه الحرب الجديدة، على الرغم من إيمانه بتفوق بلاده في المعدات والقدرات العسكرية.
وبما أنه كان ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، فقد كان شديد الانتقاد لمقولة "عسكرة السياسة الأميركية" التي اعتمدها تيار المحافظين الجدد والحزب الجمهوري، وخصوصاً السياسات العسكرية التي قادها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن مطلع القرن الحالي.
2- هدف التحول نحو الحرب الناعمة
يقول المنظر العسكري كارل فون كلاوزفيتز: "الحرب نزاع مسلح بين المصالح الكبرى تسيل فيها الدماء"، وهي أداة لحماية مصالح الدول وتوسيع رقعة سيطرتها ودائرة نفوذها، وعمل عنفي يُقصد منه إجبار الأعداء على الاستسلام والخضوع لإرادة الدول التي تشنّ هذه الحرب، وهي امتداد للسياسة، إذ تقوم على وسائل مختلفة ضمن تحيّزات مميزة وظروف خاصة.
من هنا، نجد أن هذا المصطلح الجديد، أي الحرب الناعمة، ومن خلال دمجها مع مصطلح الحرب الصلبة، من شأنه أن يخلق دلالات جديدة يكون هدفها تحقيق غايات الحرب الكلاسيكية من دون الحاجة غلى خوضها. واللافت أننا لا نجد حتى الآن دولة اعترفت بقيامها بهذا النوع من الحروب.
لذلك، توصف بأنها صامتة، فهي تستهدف السيطرة على عقول الناس ونفوسهم من خلال التلاعب بالمشاعر والمفاهيم وعمليات المعلومات والاتصالات الإستراتيجية، بعيداً عن الترهيب والإكراه، كما كان يحصل من خلال تدمير المدن واحتلالها أو استخدام السلاح الجوي ومهاجمة القواعد والمواقع الأمنية والعسكرية.
لذا، فإن اعتماد الحرب الناعمة في تحقيق الأهداف المبتغاة يكون الغاية منه التقليل من التكاليف المالية والبشرية وتجنب تشويه صورة الدولة التي تشنّ هذه الحرب أمام الرأي العام العالمي.
تكمن خطورة الحرب الناعمة بالأمور التالية:
أ- في سرّيتها، فلا يُعلن عنها ببيان وهدفها السيطرة على العقول، وهذه السرية تساهم في الانتصار بالحرب الناعمة.
ب- في أسلحتها، فأسلحة الحرب الناعمة غير مرفوضة، وهي بطابعها تنموية وأخلاقية وثقافية مثل الفضائيات ومواقع شبكات الإنترنت والهواتف وبعض المدارس والجامعات المرتبطة بالغرب ومنظمات المجتمع المدني غير الحكومية.
ج- في ترويجها، فهي تدعو إلى شعارات جذابة حقيقية يُريدها الناس، فيُخدعون وينساقون وراءها ويبدؤون بترديدها، فتنتشر هذه المفاهيم التي تُصاغ في مركز قيادة الحرب الناعمة من خلال الفضائيات والإنترنت حتى تتغلغل في فكر النخب والناشطين وتَلقى مقبولية ومطلوبية، مثل شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يُنَظَّر للحرب الناعمة على أنها القدرة على التأثير في أداء الأفراد وسلوكهم للحصول على النتائج والأهداف المبتغاة من دون الاضطرار إلى اللجوء إلى العوامل والوسائل العسكرية والصلبة.
3- تعريف القوة الناعمة
هي ما كانت تُعرف بالحرب النفسية أو القوة التسويقية، إلى أن تطور مفهومها وأصبحت تحت مُسمّى القوة الناعمة. وقد عرّفها مايكل آيزنشتات الباحث المتخصص في الدراسات الأمنية والعسكرية في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (وهو من أهم المعاهد البحثية المؤثرة في صناعة السياسة الأميركية، ويضم نخبة من الباحثين من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري) بأنها "استخدام الأقوال والأفعال والصور الانفعالية في أُطر إستراتيجية التواصل طويلة المدى لتشكيل الحالة النفسية لبلدٍ مُعادٍ للولايات المتحدة الأميركية مثل إيران".
وحدّد أن نسبة الأقوال والتصاريح الإعلامية يجب أن تُشكل 20% من حملة التواصل الإستراتيجي الناعمة، على أن تشكل 80% الباقية من الأفعال والتحركات الملموسة على الأرض.
وتكون الحرب الناعمة ناجحة عندما يمتثل المُستهدفون طواعية للطلبات والقيم والسياسات الأميركية من خلال جاذبيتها من دون أن يلمسوا هذه الجاذبية أو يشاهدوها بالعين المجردة. ويمكن قياس مدى فعاليتها من الانعكاسات والآثار التي تنتجها، وذلك عبر مراكز الأبحاث المُتابعة لها أو من خلال استطلاعات الرأي وغيرها من المؤشرات.
4- أركان وموارد القوة الناعمة
نستنتج مما سبق أن القوة الناعمة أو الحرب الناعمة تتشكل من عدة أركان:
أ- القدرة على استهداف الإنسان بكل تفاصيل حياته من خلال تشكيل تصورات ومفاهيم المُستهدفين وتلوين عاداتهم وتقاليدهم وتوجيه سلوكهم وتغيير ثقافتهم.
ب- القدرة على تشكيل الأداء السياسي للآخرين، سواء المنافسون أو الخصوم، وصولاً إلى الأعداء.
ج- القدرة على تعميم فكرة سرد الوقائع، إذ إن المُنتصر هو مَن تفوز روايته للأحداث.
د- القدرة على فرض إستراتيجيات الاتصال على الطرف الآخر من حيث التوقيت والطريقة.
ه- القدرة على الإقناع من خلال جاذبية القيم والسياسات ومدى صدقيتها في نظر الآخرين.
ولإنجاح هذه الأركان والقدرات، حدّد جوزيف ناي موارد للقوة الناعمة في 3 محاور:
أ- المثل والعادات الأميركية والثقافة في الأماكن التي تكون جذابة للمُستهدفين.
ب- القيم السياسية عندما تُطبّق بإخلاص في الداخل والخارج.
ج- السياسات الخارجية عندما يراها الآخرون مشروعة وذات بُعد أخلاقي ومعنوي.
إجمالاً، القوة الناعمة ترتكز على كل الأدوات والمؤثرات التعليمية والثقافية والأكاديمية، وفي مجالات التجارة والعلاقات العامة وكل مورد ومصدر لا يُعد ضمن القدرات الحربية العسكرية أو مفهوم القوة الصلبة.
القوة الناعمة هي قوة تعتمد على ما يدور في عقل المتلقي وذهنه، وعلى دراسة السلوك العاطفي والتفاعلي، لتصبح قوة جذب تفضي إلى السلوك المطلوب والمرغوب من خلال الإذعان من دون الحاجة إلى اللجوء إلى أي نوع من أنواع القوة الصلبة.
أدوات الحرب الناعمة
إنّ تنفيذ وظائف الحرب الناعمة ذات الطبيعة المعقدة والحساسة وتطبيقها بنجاح وإحكام يتطلب أدوات وطاقات وجهوداً بشرية كبيرة، وتحليلاً وتخطيطاً سياسياً لتوجيه الأحداث، وأجهزة استخبارات تُوفر المعلومات والمعطيات، إضافة إلى الإمكانات التكنولوجية والإعلامية والاتصالية الهائلة المترافقة مع مهارات وخبرات استثنائية ونفس طويل وبرودة أعصاب وصبر إستراتيجي مع غرفة عمليات تتولى الإعداد والتنسيق.
1- الحرب النفسية
الحرب السيكولوجية أو النفسية أو البروباغندا هي مصطلحات تُشير إلى أي فعل يُمارس وفق أساليب نفسية لاستثارة رد فعل نفسي مخطط في الطرف الآخر. تُستخدم فيها أساليب عديدة، وتستهدف التأثير فيما للأهداف من نُظم عقائدية وقِيَمية ومشاعر ودوافع ومنطق وسلوكيات.
تُستعمل الحرب النفسية لانتزاع اعترافات أو تعزيز مواقف وسلوكيات تناسب أغراض مَن يشنّها، وأحياناً ما يُجمع بينها وبين العمليات السوداء أو الرايات المزيفة، وتُستعمل أيضاً في إحباط المجتمعات وتيئيس الأفراد وتثبيط عزائمهم وإضعاف إرادتهم، وصولاً إلى تفريغ أي إنجاز من أهميته.
وكانت الحرب النفسية تعتمد على أدوات أقل تطوراً عما هي عليه في زماننا الحالي، ومنها الإذاعات والتلفزيونات والصحف والمنشورات الحكومية وتلك التي تخضع للرقابة الحكومية ودور النشر وغيرها.
والحرب النفسية تعمل على خفض مستوى معنويات العدو بصورة علنية ومباشرة وتدمير إرادته وإرعابه وتصدير الشك والخوف إليه، فيما تقوم الحرب الناعمة على زرع الأمل والجذب والاستمالة والإغواء وتقاسم الشعارات والأهداف والقيم المشتركة مع الطرف الآخر المُستهدف من دون أن تترك أي بصمات، ناهيك بالوعود الرنّانة بحياة أفضل وفق أسلوب الحياة الغربية ونيل الحريات الفردية دون حدود ونشر الإباحية الجنسية والتحرر على مستوى الفرد والمجتمع.
ونرى مثلاً، وخصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، انتشار مصطلح "الروسوفوبيا"، وهي التخويف من الروس أو الترهيب لعدم التعامل معهم، مهما كان نوع هذا التعامل، وهو ما قد حصل عند صعود مصطلح "الإسلاموفوبيا"، وذلك من خلال الترويج لهذا النوع من المصطلحات ضمن إطار الحرب النفسية.
2- الغزو الثقافي
تشكل الآفات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ساحة خصبة للحرب الناعمة، فيقوم العدو بتنظيم أنشطته وفعالياته عبر تشخيصه بؤر آفات المجتمع المستهدف، ويعمل على توسيع رقعة تحركه من خلال إيجاد انحرافات وآفات جديدة.
وتقوم الحرب الناعمة من خلال الغزو الثقافي بزرع الشك في نفوس الأفراد والتشاؤم في الكثير من القضايا. تبدأ هذه الحرب بإشاعة الشك واليأس، وخصوصاً في الاعتقادات والقيم والمصطلحات من خلال الاعتماد على التراث، ولكن بعد تحديثه بشكل دقيق وهادئ، ويكون العامل الزمني هو الكفيل بحصول متغيرات جذرية في تلك التقاليد والقيم والاعتقادات.
لذا يمكن القول إن ما تروج له الثقافة الأميركية تحقيقاً لأهدافها يكمن في:
أ- إقامة مجتمع عالمي مُصغَّر ومفتوح دون ضوابط.
ب- تعميم النموذج الأميركي في الحياة الاستهلاكية للوصول إلى مجتمع استهلاكي غير منتج.
ج- تحقيق الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية، وصولاً إلى قيادة الإدارة الأميركية للعالم.
نعم، هي معركة الوعي أو ما يُسمّى كَي الوعي، فالحرب الناعمة تُؤدي إلى الموت البطيء للهوية والذاكرة بشكل تدريجي، ما ينعكس على سلوك المُستهدف وعلى عواطفه، وبالتالي تهدف إلى تَفَسُّخ المجتمع والتشتت الفكري وتجعل أفراده عبارة عن صفحة بيضاء يكتُب العدو عليها ما يحلو له. ولعلّ أهم استهداف يكون ضرب الأسرة وتفكيكها، فعندما تضرب الأسرة يصبح هدف تفريغ المجتمع أبسط.
3- الإنترنت ومحركات البحث
الإنترنت، الشبكة العنكبوتية، تمثل التحدي الأبرز لكل الثقافات والهويات الإقليمية والمحلية. تطبع الفكر بمفاهيم متشظية متناثرة، وتسكن العقل الباطني، وتجسد الصراع بين الوعي واللاوعي، وتُفَرِّغ مكونات الجهاز النفسي والفكري، وتستبدلها بشعارات وقيم ومفاهيم أميركية وغربية.
مثلاً، انتشار الاختلاط الإلكتروني في الفترة الأخيرة بشكل واسع ومخيف. أصبح متاحاً لكل مَن يملك هاتفاً محمولاً من الجنسين إقامة علاقة افتراضية من خلال صوره ورموزٍ إلكترونية إيحائية، مهما كانت المسافات بعيدة، وبثوانٍ معدودة، وبأقل التكاليف.
أما بالنسبة إلى محركات البحث على الإنترنت، فقد يفترض البعض أن البحث على شبكة الإنترنت عن الأخبار والمعطيات والتقارير هو بحث حر وعفوي ونزيه، لكن الوقائع تؤكد عكس ذلك. وما إن يطلب الباحث أحد العناوين والموضوعات كالبحث عن أحد الشخصيات مثلاً، أو البحث عن تعريف لأحد المفاهيم، حتى تأتي النتائج موجهة نحو مواقع محددة، ومن أبرز المواقع التي يوجه إليها محرك البحث google على سبيل المثال موقع موسوعة المعطيات الحرة Wikipedia (هذه الموسوعة ليست حرة كما تطلق على نفسها، فقد اعترف مديرها البريطاني جيمي ويلز بأن هناك فِرق عمل تتولى تنقيح وتدقيق المعلومات التي يدرجها الهواة من الكتّاب العرب وغير العرب) التي تتصدر موقعها لوائح نتائج البحث.
وبإمكان أي باحث إجراء التجربة والوصول إلى هذه الخلاصة.
ونجد أن الانغماس في باطن وسائل التواصل الاجتماعي يبين مدى حجم توظيفها لمجموعة الأهداف الأميركية الأمنية والسياسية والثقافية لتحقيق مصالحها في العالم، وهو ما عبر عنه إريك شميت مدير شركة غوغل بأن شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي مرتبطة بمصالح السياسة الخارجية الأميركية ومرهونة بربط الدول غير الغربية بالأسواق الأميركية، وهو ما أكدته المجلة الإلكترونية التابعة للخارجية الأميركية بقولها: "لقد وضعنا العالم بين أصابع أيدي المستخدم".
4- الوسائل الإعلامية والفضائية
التضليل الإعلامي وسيلة من وسائل الحرب الناعمة، إذ بات اليوم الجانب الإعلامي سلاحاً فعالاً يؤدي دوراً أساسياً في كل الاتجاهات وفي كل المجالات لتزييف الحقائق والدعاية الباطلة والترويج للباطل، فهُم يستخدمون هذا الجانب في هجومهم، ويركزون عليه تركيزاً كبيراً باعتباره الطريقة الرئيسية المعتمدة للتأثير في النفوس.
تستهدف الوسائل الإعلامية الحصول على نتائج متعارضة مع الحقيقة من خلال فيضٍ من الأخبار الكاذبة، فيتم الترويج لها بشكل مدروس ومنهجي، فيصبح المشاهد أسير تلك الأخبار التي تستوطن باطن عقله وتجعله وكيلاً للقوة الناعمة.
من جهة أُخرى، نجد أن البرامج العامة التي يتم عرضها تُقدّم المنوعات والسهرات المبتذلة والطب التجاري والشعوذة والفلك والتنبؤ والمسلسلات والأفلام المُستوردة، وهي تعمل على:
أ- تقديم النموذج الغربي، وخصوصاً الأميركي الليبرالي، في أساليب الحياة العشوائية.
ب- ضرب صورة الدين والتدين والعلماء والمقدسات والبحث عن نقاط ضعفها وتبيانها.
ج- هتك القيم الاجتماعية والدينية وفعل المحرمات تحت مسمى الانفتاح والحرية والحداثة.
ومثال على ذلك، نجد أن ما سربّه موقع ويكيليكس ونشرته قناة الجزيرة القطرية عن صحيفة الغارديان البريطانية من وثيقة تظهر مستوى التنسيق الإعلامي والثقافي الأميركي السعودي لبث نوعية معينة من المسلسلات الهادفة إلى تلوين العقل السعودي والخليجي والعربي بالثقافة الغربية والأميركية، إذ كشفت الوثيقة عن العشرات من اللقاءات التنسيقية والسرية بين مسؤولين سعوديين وآخرين أميركيين للاتفاق على بث مسلسلات وسلسلة برامج كالمسلسل الأميركي "ربّات بيوت يائسات" Desperate Housewives أو مسلسل Friends الذي يعرض على قناة إم بي سي المملوكة لأحد الأمراء السعوديين وغيرها. وقد أدت هذه المسلسلات إلى تكوين جمهور واسع في الخليج والعالم العربي متأثر بالنمط الثقافي الأميركي المتعارض مع قيمنا وعاداتنا.
ولا ننسى الكَم الهائل من المسلسلات التركية والمكسيكية والهندية التي تُبث منذ عشرات السنوات، إذ يكون البطل قاتلاً أو شاذاً أو خائناً، والتي تشجع على عادات تتعارض مع أخلاقياتنا، كعدم سماع كلمة الأهل أو طلب الاستقلالية في عمر الثامنة عشرة أو إقامة علاقة غير شرعية بين زوجة وابن زوجها بالتبني...
تستفيد الحرب الناعمة من وسائل وأدوات عصرية، إذ تتم الاستفادة من أكثر التقنيات حداثة وتطوراً، مثل العالم الافتراضي والسايبيري الذي يُعتبر البيئة الأصلية للحرب الناعمة. يُوفر هذا الفضاء إمكانية الإغواء عبر عرض الكثير من الأمور الجاذبة وخلق السياقات اللازمة لإبراز العواطف والسلوكيات الحساسة، كما أن للفضائيات دوراً في عرض المواد التي تؤدي إلى إفساد النفوس وضرب الناس في إيمانهم وتدمر الأخلاق وتقضي على القيم مثل الأخبار الكاذبة والأفلام والمسلسلات البعيدة عن عادات مجتمعاتنا وتقاليدها.
خلاصة واستنتاج
بعد أن تطرأنا إلى دراسة نظرية الحرب الناعمة ونشأتها ومفهومها وأركانها ومواردها وبعض أدواتها كأدوات التكنولوجيا، نستنتج أن الحرب الناعمة هي حرب صامتة وتدريجية وهادئة ومعقدة ويطغى عليها البعد الثقافي، تستهدف الأفراد والمجتمعات وتسعى إلى تفريغ البيآت من قيمها وعاداتها واستبدالها بالثقافة الغربية والأميركية.
وهدف الحرب الناعمة هو الشيء الموجود في قلوب الناس وفي أذهانهم وفي عقولهم أي إرادتهم وعزيمتهم وصلابتهم وأملهم وأحلامهم وقدرتهم على المواجهة والإنتاج.
من هنا تأتي دعوتي لكل فرد (شابة وشاب من بلدنا العربي وخصوصاً وطني لبنان) أن يكون مثال المواطن والناشط الصالح والواعي وأقول لهم:
"إستثمروا وقتكم بالمعرفة والثقافة، اعملوا بجدّ واجتهاد، كُفّوا عن السخافات والهرتقات في وسائل التواصل الإجتماعي وتضييع الوقت والطاقة، تعلموا وابحثوا، ناقشوا بمنطلق تقبل الآخر ورأيه، خذوا الدين لنفسكم وأبعدوه عن تفاصيل المُواطَنة، طبقوا القانون بِدْءً من أنفسكم، كافحوا الفساد في محيطكم أولاً ولا تكتفوا بانتقاد الدولة لمجرد النقد، أُخلوا المقاهي لكبار السن والمتقاعدين ولا تكونوا أسرى في سجن الخمول والكسل والضعف، لا تملّوا ولا تكلّوا في النهوض نحو تحقيق الأهداف والإرتفاع بعالمنا في مقابل الهجمة الشرسة التي نتعرض لها من خلال الحروب المتعددة الأجيال والأوجه ومنها الناعمة والصامتة".
وفي النهاية نطرح الإشكالية التالي:
كيف يمكن للبصيرة واليقظة والهمة المضاعفة مواجهة موجات الحرب الناعمة متعددة الأوجه؟