الحرب الكبرى: بين همجيّة العدو وصمود المقاومة وانتصارها
نحن في خضمّ الحرب الكبرى، لكننا نشهد صموداً أسطورياً للمقاومة، وثباتاً لبيئتها المؤمنة بأهميتها، وأنه بفضل تضحياتها، تتمّ حماية لبنان.
في ظلّ الحرب المفتوحة على قطاع غزة وفتح جبهة الإسناد في الجنوب بعد عملية طوفان الأقصى، وتصعيد العدوان على لبنان، وتجاوز قواعد الاشتباك والقرار 1701 بشكل فاضح، منذ الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر 2024، دخلت المنطقة في صراع مفتوح على احتمالات خطيرة، وتبيّن أنّ معظم الأطراف أصبحت عاجزة عن الخروج من مأزق الحرب المجنونة، فقد قامت قوات الاحتلال بتصعيد غير مسبوق في قطاع غزة، ومضت في ارتكاب المجازر اليومية، مانعة المساعدات الطبية والغذائية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، والسير في تنفيذ خطة الجنرالات الوحشية، التي تهدف إلى التهجير القسريّ للسكان وتجويعهم.
كلّ ذلك يحصل تحت مرأى العالم، الذي تجاهل التدمير الممنهج للمستشفيات، واستغلال حكومة الاحتلال للانتخابات الرئاسية الأميركية، التي شكّلت صدمة مدوّية للحزب الديمقراطي، في ظلّ وصول مرشّح الحزب الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والهيمنة على الكونغرس الأميركي، لتطبيق سياساته وتحقيق أهدافه الاستراتيجية، التي يتوقّع معظم المتابعين بأنها ستكون مختلفة بشكل جوهري عن إدارة الرئيس جو بايدن، التي بسبب سوء إدارتها في قضايا عديدة، ومنها الحرب الروسية – الأوكرانية، وحربَا غزة ولبنان، تمكّن المرشح الجمهوري من الوصول إلى البيت الأبيض.
كما أن ذلك سيتيح للرئيس الجديد مساحة واسعة لتحقيق إنجازات داخلية وخارجية، وتحديداً في كيفية التعاطي مع الملفات الساخنة في العالم، بما يخدم مصالح الولايات المتحدة الأميركية، وبالطبع مصالح "إسرائيل"، التي احتفلت بمفاجأة وصول دونالد ترامب إلى السلطة، وكسب نتنياهو لرهانه على ذلك، وتأخير كل المبادرات وعرقلة معظم المساعي والمفاوضات لوقف الحرب في غزة ولبنان، ومتابعته للعملية البرية، التي اصطدمت بمواجهة شرسة من قبل المقاومة، ومنعته من التوغّل في العمق اللبناني، ما يشكّل ضغطاً على بيئة المقاومة، التي أرهقها النزوح.
هذا بالإضافة إلى القلق من افتعال فتنة داخلية، وفرض شروط سياسية تنتقص من سيادته، وسعي بعض القوى الداخلية إلى الإفادة من تصوّرهم بضعف المقاومة، بعد اغتيال قادة المقاومة، وعلى رأسهم سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله، ومسارعة تلك القوى إلى استعجال انتخاب رئيس للجمهورية قبل وقف الحرب.
كلّ ذلك يأتي في سياق ولادة الشرق الأوسط الجديد، تكراراً لتجربته الفاشلة في حرب تموز 2006، وبسبب عجزه عن تحقيق أيّ سيطرة فعلية على العديد من القرى الحدودية، لتقوية موقفه في التفاوض، الذي أراده تحت النار، قام بتفجير وتدمير قرى بأكملها، بهدف منع سكان القرى الجنوبية من العودة، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح وخالية من السكان بالقرب من الحدود.
لكن بفضل المقاومة وثبات مجاهديها، ونجاحها في ترميم تشكيلاتها القيادية والميدانية، وإعادة التنسيق فيما بينها، الذي ظهر في الفترة الأخيرة بشكل واضح، بعد انتخاب الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً لحزب الله، وعبر إطلالاته العديدة، التي دائماً ما كانت تتزامن مع الزخم الصاروخي نحو الداخل الإسرائيلي، واستهداف الحشود على طول المنطقة الحدودية، واستخدام أنواع متطوّرة من الصواريخ، ما يؤكد القدرة على الصمود، والاستعداد لحرب طويلة، تهدف إلى الضغط على حكومة العدو، نتيجة الإرباك الذي أصابها، وقيام بنيامين نتنياهو بإقالة وزير الدفاع، وتعيين يسرائيل كاتس بديلاً منه، وسعي رئيس الوزراء للتحكّم في مجريات الحرب، وتهديده بإقالة رئيسي الأركان والشاباك.
الكثير من المحللين اعتبروا أن تعيين وزير جديد للدفاع، يهدف إلى تمرير قانون يعفي اليهود المتشدّدين (الحريديم) من الخدمة العسكرية، والسعي لتحقيق أهداف أخرى، من بينها توجيه رسالة إلى إدارة بايدن، قبل معرفة النتائج الرئاسية الأميركية، بإزاحة رجل واشنطن من الحكومة.
لقد تمكّنت المقاومة من استعادة المبادرة، في ظل ارتكاب العدو للمجازر اليومية في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، واستهدافه للعديد من المناطق في جبل لبنان، بحجّة وجود قيادات أو عناصر من المقاومة في تلك المناطق، في خطوة واضحة الأهداف لزيادة الضغط الداخلي على المقاومة، وتحسين الشروط التفاوضية تحت النار، واستغلال بعض القوى لهذا الدمار الواسع وسقوط الشهداء، للتصويب على المقاومة، وتحميلها المسؤولية الكاملة عن كل ذلك، والتغاضي بشكل فاضح عن كلّ الارتكابات الإسرائيلية، وتجاوزها لقواعد القانون الدولي الإنساني، التي تمنع استهداف المدنيين أو الأعيان المدنية.
كلّ هذا في تكرار للمأساة اليومية في قطاع غزة، لإخضاع المقاومة، كما في كل الحروب الإسرائيلية، بالقيام بممارسات وحشية وإجرامية، كون الاحتلال يعجز عن هزيمة المقاومين، الذين لم يثنيهم اغتيال قياداتهم عن مواصلة القتال لمنع العدو من تحقيق أهدافه التوسعية، وتمرير التطبيع بين "إسرائيل" والدول العربية، والضغط على المقاومة في لبنان، لتغيير موازين القوى الداخلية، التي تسهّل التحكّم في إدارة البلاد، وترسيخ معادلة يريدها العدو، بأنّ أيّ مقاومة مستقبلية ستكون أكلافها عالية.
هذا الأمر في غاية الخطورة، والمقاومة تضع في استراتيجيتها الحفاظ على حيويتها، وهدفها الجوهري، بأنه مهما ارتفعت كلفة المواجهة مع العدو، تبقى أقل من الفاتورة الكبرى التي يمكن أن تدفعها الدول عند ضرب سيادتها والتحكّم في سياساتها، وتقويض جهودها في الاستقلال والتنمية، والأهمّ من كل ذلك، منع التفلّت من التبعية، التي تأتي نتيجة الرضوخ لشروط العدو، والقوى الداخلية التي تتماهى معه، والتي تعمل على إضعاف حركات المقاومة، واستبعادها من المشاركة في السلطة، وتأليب الشرائح الاجتماعية ضدها، عبر الوسائل الإعلامية الخارجية والداخلية، بهدف التضييق الشعبي على المقاومة.
وهذا الأمر يشمل التحرّكات الشعبية في العالم، المناهضة لسياسة الاحتلال، والرافضة للمجازر التي يرتكبها، والتي ترقى للإبادة الجماعية، والتي لا تحتاج إلى قرائن وأدلة لإثباتها، بحيث أصبحت ممارسة يومية للاحتلال، الذي يتسلّح بدعم أميركي مطلق، وخضوع غربي واضح للسياسات الأميركية، هذا الاحتلال الذي لولا الدعم الغربي، لكان عاجزاً عن الاستمرار، لأن معظم شعوب العالم تنبذ همجية العدو، وترفض التعايش مع الأفكار التوسّعية والعنصرية والعدوانية التي ترسّخت في المجتمع الإسرائيلي، بالرغم من كل المحاولات الهادفة إلى إمكانية تحقيق السلام، ودمج "إسرائيل" في المنطقة.
كلّ الوقائع أثبتت أن الصورة الإجرامية للعدو يستحيل التناغم معها، وكلّ ما في الأمر، أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ترى في "إسرائيل" قوة يمكن استخدامها في تنفيذ سياسة الهيمنة العالمية، للسيطرة على اقتصادات الدول ومواردها الطبيعية، وجعلها في تبعية مستمرة لنظامها العالمي.
نحن في خضمّ الحرب الكبرى، لكننا نشهد صموداً أسطورياً للمقاومة، وثباتاً لبيئتها المؤمنة بأهميتها، وأنه بفضل تضحياتها، تتمّ حماية لبنان، وأن المعركة هي ضد عدو يسعى للقضاء على التنوّع اللبناني، ولا يميّز بين اللبنانيين في عدائه لهم، لأن أهدافه التوسّعية شكّلت علامة ثابتة في عدوانه على لبنان، طامعاً بمائه وثرواته الطبيعية، ومحاولاته الدائمة للقضاء على وحدته، واستخدام الفتنة الداخلية لتحقيق أهدافه، وكل المحطات التاريخية والأزمات التي مرّ بها لبنان، كان للعدو فيها نصيب، لضرب اقتصاده وتمايزه في المنطقة، ومنع تقدّمه وتطوير نظامه السياسي.
من المفترض أن يكون اللبنانيون تعلّموا من التاريخ، وأن قوتهم تكمن في تصدّيهم للعدو الإسرائيلي، ومنع بعض القوى السياسية من اللعب بالنار، عبر السعي إلى تغيير الموازين الداخلية، وإضعاف المقاومة، والإفادة من المقاومة لتحقيق انتصار لبنان في معركته المصيرية، والخروج من الحرب بالشروط التي تضمن سيادته ووحدته الوطنية.