التداعيات الإستراتيجية لعملية "طوفان الأقصى"

ستحفر عملية "طوفان الأقصى" عميقاً في الوعي الجمعي الصهيوني، وستعمّق الهوة التي ستكبر بين الرأي العام الصهيوني الداخلي وبين "جيشهم" الذي فقد قدرته على حمايتهم وتوفير مظلة الأمان لهم.

  • عملية طوفان الأقصى.
    عملية طوفان الأقصى.

أحدثت عملية "طوفان الأقصى" طوفاناً عسكرياً وأمنياً وسياسياً مهولاً غير مسبوق، وفتحت الآفاق في المنطقة وفي فلسطين على معادلات جديدة وتأثيرات كبرى ومسارات مواجهة وصراع مختلفة عن كل ما سبق في سياق المواجهة الوجودية المفتوحة مع الكيان الصهيوني منذ نشأته عام 1948 وحتى عصرنا الراهن.

سياقات الصراع مع الكيان الصهيوني وأدبيات المواجهة الوجودية تغافل عنها الكثيرون، وأسقطوها من حساباتهم إما بفعل التراخي والتراجع والتسليم بالرغبات الغربية وفي طليعتها الأميركية، والذهاب إلى حيث تريد واشنطن وترغب، وإما بفعل العجز والنأي بالنفس بحجة أن هذا الكيان ومن خلفه الغرب عصي على الكسر والهزيمة، لذا لا بد من الانكفاء تجنباً للشر المستطير الذي لحق وسيلحق بدول منطقتنا، والذي يمكن أن يلحق بنا لأن قدرتنا على مواجهة "الإله" الأميركي وربيبته "إسرائيل" ضعيفة ومعدومة ولا تقوى على ذلك، أمثال كل هؤلاء أخرجوا من قواميسهم أن حربنا مع الكيان الصهيوني حرب وجودية وليست حرباً حدودية، وباعتبارها حرب هوية وانتماء وبقاء، لأنها لم تكن يوماً عسكرية فقط بل ثقافية وعقائدية وفكرية وإنسانية وأخلاقية وقيمية واجتماعية ودينية، ولا بأس من التذكير أن هؤلاء شذاذ الآفاق الذين يستوطنون فلسطين كلها يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم شعب الله المختار، وأن بقية الأقوام حيوانات وعبيد خلقوا لخدمتهم.

 وفي الأمس، عبّر وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت عن هذا الاعتقاد عندما وصف الفلسطينيين بـ"الحيوانات"، واعتبار الصهيوني أن العربي الجيد أو الصالح هو العربي الميت، والدعوة إلى قتل العرب، وتعميم ثقافة الموت والقتل والاحتلال كونها جزءاً من المناهج التربوية التي ينشأ عليها الأطفال الصهاينة، أضف إلى ذلك، عبقرية الصهاينة في صناعة الكذب والأساطير وليس آخرها ما صرّح به رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، عندما ادّعى كذباً أن المقاومة الفلسطينية اغتصبت النساء وقطعت رؤوس الأطفال عندما حررت غلاف غزة، فضلاً عن أن الكيان الصهيوني حدوده متحركة لا تقف عند خطوط مسجلة أو موثقة، فهو "الدولة" التي تتجاوز القانون الدولي والمواثيق والعهود والشرائع الدولية، وبالتالي هو فوق المحاسبة وهو "الدولة" التي تتربع على أعلى التل في منطقتنا، كما الراعية له الولايات المتحدة التي تتربع على أعلى التل في العالم.

بالعودة إلى عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية يوم السبت الواقع فيه 7 تشرين الأول/أكتوبر ضد الكيان الصهيوني، والتي تركت وما زالت حالة من الصدمة والذهول عمت الكيان الصهيوني ورعاته في الغرب، فضلاً عن التأثيرات والتداعيات الإستراتيجية لهذا الطوفان العظيم التي نوجزها بالآتي: 

1 ـــ بداية انهيار المشروع الصهيوني وأفوله، إذ ليس من قبيل المبالغات ولا الانفعالات القول والجزم إن من تداعيات عملية "طوفان الأقصى" بدء العد العكسي لانهيار المشروع الصهيوني باعتباره انعكاساً للمشروع الغربي الاستعماري الاستيطاني الذي قسّم دول المنطقة واضطهد شعوبها، وعمل على بث الفرقة والانقسام والعداء فيما بينها، وهذا سياق طبيعي حتمي لمسارات الصراع والمواجهة المستمرة ضد الكيان الصهيوني.

إذ ثمة نهاية والنهاية للحق مهما طغت القوة المحتلة والباطشة، لذا نشاهد كيف أن الغرب هبّ برمته لنجدة الكيان ووقف انهيار المشروع الصهيوني وانحداره، إذ أقصيت النخبة الحاكمة فيه عن دفة القيادة ليتولى الأميركيون الأمر مباشرة، فأعادوا ترتيب البيت الداخلي الصهيوني من خلال حكومة الحرب التي شكلت، والتأكيد على الدعم غير المسبوق للصهاينة في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها "جيشها" المتراجع والمنهار على غزة، فضلاً عن إرسال حاملة الطائرات الأميركية "جيرالد فورد" في إشارات في أكثر من اتجاه بأن الولايات المتحدة لن تسكت عن أي تدخل للمقاومة اللبنانية أو غيرها من قوى المحور في الحرب الصهيونية على غزة، وتأكيد حلف "الناتو" بأن الكيان الصهيوني ليس وحده في هذه الحرب الوجودية، فهذه المنظومة التي ترتكز على إمكانيات هائلة تفوق التقديرات والتصورات، تعتقد واهمة أنها تستطيع إيقاف هذا الانهيار والتدهور والتراجع للكيان الصهيوني لمشروعها الذي دخل نفق الانهيار حيث لا رجعة وعودة إلى الوراء.

2 ـــ سقوط فكرة اعتبار الكيان الصهيوني كياناً طبيعياً لدمجه في المنطقة، حيث العمل جار على قدم وساق ليكون هذا الكيان ومستوطنوه جزءاً من كيانات المنطقة وشعوبها، وهذا يخالف المنطق الإنساني والأخلاقي والتاريخي، وبالتالي الذهاب نحو فكرة استبدال العدو الصهيوني بعدو آخر، لذا ستكرس عملية "طوفان الأقصى" فكرة أن الكيان الصهيوني جسم غريب عدواني استيطاني احتلالي لن يتحوّل لا الآن ولا في المستقبل إلى كيان طبيعي تتآلف وتتعايش معه دول المنطقة وشعوبها.

3 ـــ نهاية الحياة السياسية لرهط كبير من قادة الكيان الصهيوني، فكما كتبت حرب تموز عام 2006 نهاية رئيس حكومة العدو آنذاك يهودا أولمرت ووزير الحرب عمير بيرتس ورئيس الأركان دان حالوتس، فإن من تداعيات عملية "طوفان الأقصى" الإستراتيجية إنهاء الحياة السياسية لكل من نتنياهو وبن غفير وسمورتش وغيرهم الكثير في الوسطين السياسي والعسكري الصهيونيين.

4 ـــ ستفتح عملية "طوفان الأقصى" مسارات جديدة لآفاق الصراع في المنطقة، فالمقاربة النوعية التي قدمتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر تعني أن تغييراً كبيراً في إدارة المعركة مع العدو ستكون هي الحاكمة على الصراع والمواجهة في المراحل المقبلة، وعليه فإن المقاومة ستصبح أكثر نضجاً في أي مواجهة قادمة مقارنة بكل المواجهات والحروب السابقة، باختصار سيرسخ طوفان 7 تشرين الأول/أكتوبر إستراتيجيات جديدة للمواجهة منهية بشكل كامل المواجهة الكلاسيكية مع هذا الكيان، وقد بدأت تبرز في العبقرية الإستراتيجية للمقاومة، التي بات سقفها ما جرى في عملية "طوفان الأقصى" النوعية الإستراتيجية.

5 ـــ من التداعيات الإستراتيجية الكبرى لعملية "طوفان الأقصى" نهاية ما يسمى بـ"السلام الإبراهيمي"، و"مبادرة السلام العربية" التي أطلقت في القمة العربية في بيروت والتي تعرف بـ"مبادرة عبد الله"، وكل أشكال مبادرات السلام، باعتبار المقاومة باتت خياراً استراتيجياً وحيداً ناجعاً لشعوب المنطقة، لأنها تعتقد اعتقاداً راسخاً أن مسارات السلام على امتداد عقود لم تعد حقاً وأرضاً، ولم تردع عدوان هذا الكيان الصهيوني على شعوب المنطقة، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني.

6 ـــ السقوط الكامل لنظرية أن "الجيش" الصهيوني هو "الجيش" الأسطورة والقوة الضاربة في كامل المنطقة، هذه النظرية التي كانت تصور الجندي الصهيوني بأنه لا يقهر، وأن "جيش" هذا الكيان لا يهزم ولا يقهر، وحروبه نزهة، وأن كل الحروب التي يخوضها هذا "الجيش" تدور رحاها على أرض العرب، وليس داخل الكيان الصهيوني، كما وأجهزت عملية "طوفان الأقصى" على أجهزة الاستخبارات الصهيونية الداخلية والخارجية كالموساد والشاباك وأمان باعتبارها الأقدر والأمهر من حيث تجنيد العملاء، وجمع المعلومات، وبناء التصورات، ورسم الخطط، وتنفيذ العمليات الأمنية والاستخبارية في دول قريبة وبعيدة.

حيث عوّلت هذه المنظومة على هذه الصورة في تسويق نفسها في المحيط العربي وخارجه، سواء في الحروب العدوانية لفرض هيبة وردعاً، أو بعد إطلاق مسار سلام لجلب منفعة، عبر تعاون اقتصادي تارة، أو عرض حماية بلدان عربية من أعداء إقليميين تارة أخرى، ولنتذكر في هذا السياق ما كان يردده شيمون بيريز أحد قادة هذا الكيان التاريخيين في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" بأن المال عربي والعقل إسرائيلي.

كما أن عملية "طوفان الأقصى" ستحفر عميقاً في الوعي الجمعي الصهيوني، وستعمّق الهوة التي ستكبر بين الرأي العام الصهيوني الداخلي وبين "جيشهم" الذي فقد قدرته على حمايتهم وتوفير مظلة الأمان لهم، وتلاشت الوعود بـ"الدولة اليهودية" إذ تركوا طوعاً دولهم التي ينتمون إليها فشدوا الرحال إلى أرض ليست لهم فتحولت إلى جحيم يؤرق مضاجعهم، ويجعلهم أسرى الغرف الصغيرة المحصنة تحت الأرض حيث استحالة العيش فيها إلى وقت طويل من دون أفق وأمن مفقود. 

وعليه، ستثبت عملية "طوفان الأقصى" معادلات مختلفة وجديدة في المواجهة العسكرية والاستخبارية ستكون عصية على الاحتواء والكسر والإنهاء، وستكون من التحديات الوجودية للكيان الصهيوني، ولكامل المنظومة الغربية.

7 ـــ أنهت عملية "طوفان الأقصى" فكرة التسويق للقانون الدولي والشرعية الدولية التي كانت تتعطل وتتوقف عندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني باعتباره فوق كل ذلك، وبأنه فوق الحساب والإدانة الدولية بفعل الحماية الغربية عامة والأميركية خاصة، وبالتالي فإن عملية "طوفان الأقصى" أرست قواعد رسوخ الحواضن الشعبية وسموها وعلو كعبها على أي قواعد قانونية دولية يتم تطويعها خدمة لإدامة المشروع الاستيطاني الصهيوني، وتحقيقاً لمصالح الغرب الاستعماري.

8 ـــ من التداعيات الكبرى لعملية "طوفان الأقصى" تسارع وتصاعد التساؤلات الوجودية في الغرب والمعسكر الموالي له حول الدور الوظيفي للكيان الصهيوني المتهالك والمتراجع، هذا الدور الذي راهن عليه الغرب في مخططاته التفتيتية والتقسيمية في منطقتنا على مدى عقود، وعليه فالحدث الزلزلي الذي أحدثته عملية "طوفان الأقصى" سيزيد من النقاشات في الغرب حول جدوى الدور الوظيفي للكيان الصهيوني في قلب منطقتنا، لاستمرار تنفيذ مخططاته العدوانية، وهذا ما عبر ويعبر عنه الوسطان الأكاديمي والإعلامي الصهيونيان حيث كتب هؤلاء في مقالاتهم وفي أعمدة الصحف الرئيسية، وفي مراكز الدراسات والأبحاث أنه مهما فعلنا ودمرنا وقصفنا نحن هزمنا.

بالمحصلة، سترسي عملية "طوفان الأقصى" السقوط الحتمي لفكرة "إسرائيل" الكيان الأسطوري، فإعادة التأهيل لهذه الفكرة باتت مستحيلة وغير قابلة للتحقق، فالغرب عامة والولايات المتحدة خاصة يدركان أن التداعيات الطوفانية والنتائج الكارثية لسقوط نموذجه باتت مسألة وقت، وأن إرسال الأساطيل إلى منطقتنا والإمداد المفتوح للكيان الصهيوني بفخر ما أنتجته الصناعات العسكرية الغربية من سلاح والتي جربت في الكثير من الدول حول العالم لم تعد تجدي نفعاً، فروح المقاومة التي تعم كامل جغرافيا منطقتنا غير قابلة للخنق والإخضاع.

وبالتالي فإن كل الوسائل التي يعمل عليها رعاة هذا الكيان هي جهود لا طائل منها لإنعاش هذا الكيان الصهيوني الذي دخل حالة الموت السريري، ومع هذا الطوفان الكبير أصبحت مخططات وأماني الحلم الصهيوني التي كان يعبر عنها إسحق رابين كثيراً وبمرارة بقوله: "أتمنى أن أنام وأستيقظ وأرى أن غزة قد ابتلعها البحر" قد أصبحت أضغاث أحلام وأماني لكيان العجز والردع المتأكل، فها هي غزة قد ابتلعت الكيان الصهيوني، معلنة بداية العد العكسي لنهاية الكيان الصهيوني وأفوله الحتمي. 

 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.