الاغتيال: الهدف بوزن صالح العاروري

كان العاروري يُجيد نزع فتيل القرارات الصعبة، وقيادة أصعب وأدقّ اللحظات في معركة الاشتباك، إضافة إلى أنه صاحب الروح الوطنية، إذ بكى عليه الشاب الفتحاوي قبل الحمساوي تحديداً في الضفة الغربية المحتلة.

  •  نبأ اغتيال العاروري كان لحظة مفصلية بالنسبة للشعب الفلسطيني.
    نبأ اغتيال العاروري كان لحظة مفصلية بالنسبة للشعب الفلسطيني.

من النافذة السياسية والعسكرية يعد صالح العاروري رجلاً من العيار الثقيل على الساحة الفلسطينية فضلاً عن الساحة الدولية، إذ أدّى هذا الرجل دوراً محورياً في إعادة ترتيب أوراق المنطقة ضمن لُعْبَة الساحات، حيث أتقن بجدارة قواعد اللعبة وتمكّن حتى اللحظات الأخيرة من رسم خطوط وقواعد الاشتباك مع الاحتلال خصوصاً بعد السابع عشر من أكتوبر، فقد كان العاروري يُجيد نزع فتيل القرارات الصعبة، وقيادة أصعب وأدقّ اللحظات في معركة الاشتباك، إضافة إلى أنه صاحب الروح الوطنية، إذ بكى عليه الشاب الفتحاوي قبل الحمساوي تحديداً في الضفة الغربية المحتلة.

ما بين الموت والخلود المتلازمين دوماً في سياق المعركة مع الاحتلال سعى العاروري للنقش بإبرة خياطة خلوده الأبدي داخل قلوب وعقول الشعب الفلسطيني، إذ كان هذا الرجل يسعى دوماً للبحث عن حقّه بالإجابة لا حقّه بالسؤال، وأكثر من ذلك كان يتقن هذا الرجل تلك اللحظات التي عليك فيها أن تُخرج أظافرك للمحتل، ولذلك كان العاروري يدرك في هذا السياق ماذا أن يكون الإنسان ضحية مجده، وأكثر مجد شعبه.

كانت القضية الفلسطينية بالنسبة لصالح العاروري تعلو على الجزيئات، إذ تعتبر الحرية التي هي نفسها المقابل كما قال الشهيد غسان كنفاني هي الهدف بالنسبة للعاروري، القصد هنا أن فلسطين تعلو فوق أي مصلحة فردية أو حزبية، وعليه كان اغتيال هذا الرجل بالنسبة للشعب الفلسطيني يتلخّص في تلك الكلمات التي تقول: الضربة التي لا تهزمنا تزيدنا قوة"، بل إن العاروري كان خسارة كبيرة، لكن هذه الخسارة ثمنها الأول الاستمرار في المقاومة وأكثر الثمن الاستراتيجي تحرير فلسطين.

من زاوية أكثر قرباً والتصاقاً مع ما سبق كان نبأ اغتيال العاروري لحظة مفصلية بالنسبة للشعب الفلسطيني، حيث جاء الاغتيال في ظروف استثنائية يعيشها الشعب الفلسطيني، ولست أبالغ هنا إذا قلت إنّ اغتيال العاروري هو ضربة فارقة في تاريخ هذا الشعب، إذ ينطبق على استشهاد هذا الرجل تلك الكلمات التي تقول: لقد اكتشفنا أننا نحبه"، إذ لم يكن صالح العاروري كقائد في المقاومة يعيش حالة من الاغتراب عن هموم شعبه، وإذا تحدّثت هنا عن نفسي إذا جاز سأبقى أتذكّر هذا الرجل وهو يقول: "على أم الشهيد ألّا تشعر أن دماء القادة أغلى من دَم ابنها"، حيث هذه الكلمات جعلت والدتي كأم شهيد تقول وهي تبكي: "صالح العاروري ابن الشعب الفلسطيني كلّه".

تفوّق صالح العاروري على كلّ ما يمكن أن يكتب عنه، إذ نجح فعلاً في كتابة مسيرة حياته ليختتمها أخيراً بالشهادة، وهنا تفوّق أيضاً في رثاء نفسه وأعفى الجميع من هذه المهمة المعقّدة، حيث الحديث عن هذا الرجل يجعلنا نرسب في امتحان الرثاء، لأنّ العاروري قال كل ما يحب أن يقال عنه، وأكثر قام بحجب ما كان راغباً عن اسمه، ورسم صورته في لحظة الغياب، وربما هنا علينا أن نقول له شكراً لأنك أعفيتنا جميعاً من هذا الحمل، والأهم أن ضحكتك المعتادة ستبقى تسخر من كل ألاعيبنا في مقامرة الرثاء.

إذاً كان يدرك العاروري أن الموت في لُعْبَة الحرية أمر لا مفرّ منه، إذ تمكّن في الوقت بدل الضائع من إحراز الهدف الأخير، بل النصر الأخير، فضلاً عن أنه اختار الشهادة طريقاً للرحيل حتى يتمكّن من منح الأحياء الحرية، وهذا ما يميّز القائد الحقيقي، أو القائد الإنسان، القصد أن هذا النوع من القادة يجعل من أسلوب الرحيل هو الآخر نموذجاً للقتال للباقين من بعده. 

أولئك الباقون الذين قال فيهم الشهيد غسان كنفاني كلماته الشهيرة: "إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية المَيِّت إنها قضية الباقين المنتظرين بمرارة دورهم لكي يكونوا درساً صغيراً للعيون الحية"، حيث لا يمكن لقائد بحجم صالح العاروري أن يترك إرثاً مهزوماً حتى خلال لُعْبَة الموت، لأنه من الأفضل أن يكون الإنسان ميتاً على أن يعيش مهزوماً في ظل الصراع مع الاحتلال، وهذا ما يعلمه جيداً الشهيد صالح العاروري.

كان العاروري يعتبر أن الشهداء الذين سبقوه هم أفضل منه، ومع استشهاده أصبح أفضل منّا، ولذلك أشعل الحرب وذهب ليدفع الثمن لأنه كان يدرك أن الباقي من الزمن ساعة، والقصد هنا ساعة الانتصار والحسم، حيث هو المؤمن أنّ أملاً مجهولاً خير من يأس راهن، وأكثر أن حياة الشعب الفلسطيني ليست هادئة، بل يُعكّر صفوها الرَّصاص المجبول بالموت، وعليه قرّر إشعال عود الثقاب في المنطقة، لأنه مؤمن بحرية الشعب الفلسطيني أو فلينفجر العالم.

قام صالح العاروري بهندسة معركة طوفان الأقصى من أجل إغلاق بوابة الاستعمار في منطقة الشرق الأوسط، وسعى من خلال هذه المعركة لكتابة بداية نهاية تاريخ الاحتلال في فلسطين أولاً، فلسطين أبداً، وفي سياق منفصل من منّا يقدر على تخيّل ما كان يُفكّر فيه صالح العاروري أخيراً وهو يسير نحو حتفه، لربما كنت تُردّد بداخلك كلمات الشاعر محمود درويش في قصيدته مديح الظل العالي عن لبنان التي احتضنتك، وأكثر التي استُشهدت على أرضها، إذ قال درويش: 

يا أهل لبنان الوداع

هذا دمي يا أهل لبنان ارسموه قمراً على ليل العرب

هذا دمي دمكم خذوه ووزّعوه شجراً 

رحيلي عن نوافذكم وعن قلبي انحتوه حجراً على قبر العرب

هذا بكاء رصاصنا، هذا يتيم زواجنا، فلترفعوه سهراً على عرس العرب

هذا نشيجي مزّقوه وبعثروه مطراً على أرض العرب

هذا خروج أصابعي من كفكم

هذا فصام قصيدتي، فلتكتبوه وتراً على طرب العرب

هذا غبار طريقتنا، فلترفعوه لهمو حصوناً، أو قلاعاً 

يا أهل لبنان الوداع..

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.