استراتيجية "المعركة بين الحروب" الإسرائيلية: اعتراف بالإخفاق وتآكل الردع الإسرائيلي
إنّ بروز تحديات جديدة والدمار الذي خلّفته حرب لبنان في عام 2006 قد حفّزت الجيش الإسرائيلي على بلورة مفهوم للحرب الوقائية المتكاملة منخفضة الكثافة وهو "الحملة بين الحروب".
يعرّف الجيش الإسرائيلي مصطلح "المعركة بين الحروب" بأنّها هدف أساسيّ لمنع الوجود الإيراني في سوريا وخاصّة بالقرب من الجولان، ومنع وصول سلاح كاسر للتوازن إلى حزب الله من أجل حدّ أيّ تعاظم لقوّة الحزب، خاصّة في كلّ ما يتعلّق بما يُعرف بـ "المشروع الدقيق" ويعني بالعبرية "مبام".
إنّ استراتيجية المعركة بين الحروب عرفت ذروتها عام 2013 مع بداية الحرب السورية وبداية أسلوب جديد في مواجهة إيران "وأذرعها". إذ بحسب مراقبين صهاينة يعتبرون هذه المعركة أقلّ تكلفة مادية وعسكرية من خوض مواجهة شاملة لأنّ سوريا تُعتبر ساحة صراع جديدة للمواجهة الإيرانية-الإسرائيلية.
في عهد بني غانتس مروراً إلى أزينكوت
في أعقاب الأحداث في القدس الشريف والأزمة الداخلية في "إسرائيل" وجدت الأخيرة نفسها مضطرة لتصدير أزمتها الداخلية إلى الخارج، فكان الهدف سوريا بأيام أربعة مليئة بالغارات على أراضيها واستكمالاً "للمعركة بين الحروب"، وأيضاً ما تشهده سوريا من انفتاح عربيّ ودوليّ عليها.
إنّ بروز تحديات جديدة والدمار الذي خلّفته حرب لبنان في عام 2006 قد حفّزت الجيش الإسرائيلي على بلورة مفهوم للحرب الوقائية المتكاملة منخفضة الكثافة وهو "الحملة بين الحروب" بحسب تعبير رئيس الأركان الصهيوني غابي أزينكوت في مؤتمر بمقابلة مع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى.
ولأنّ سوريا قاعدة جغرافية مركزيّة لدى المحور المتطرّف بقيادة إيران، فإنّ الهدف الأهم المعرّف في الاستراتيجيا الإسرائيلية، برأي هؤلاء الباحثين، هو التشويش على التموضع الإيراني، وتعاظُم قوة حزب الله فيها، من خلال منع نقل الأسلحة والتشويش على منظومة تعزيز القوّة للمحور والضرر بالبنى العسكرية التابعة له.
ويقولون إنّه إضافة إلى ضرب الأهداف الإيرانية تضّمنت "المعركة بين الحروب" في العام الماضي ضرب أهداف سياسية لنظام الأسد، بهدف دفعه إلى وضع قيود على النشاط العسكري الإيراني، وهو ما جرى بالتنسيق مع روسيا والولايات المتحدة اللتين لديهما قوات على الأرض في سوريا.
على الرغم من الإقرار الإسرائيلي بنجاح استراتيجية "المعركة بين الحروب"، هذه الاستراتيجية كانت موضع نقد الخبراء والمحللين في الكيان الصهيوني لأنّها لم تحقّق أهدافها وقد وصلت للاضمحلال وكبّدت الجيش الإسرائيلي مبالغ مالية، والأهمّ من ذلك بحسب تعبيرهم أنّه في خضم التهاء الجيش الإسرائيلي في المعركة بين الحروب كانت قوى محور المقاومة تعاظم قدراتها وتشكّل طوقاً حول الكيان الصهيوني.
بناءً على ذلك أشارت الباحثة (عيدان كدوري) من معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في تل أبيب في دراسة لها إلى أنّ "استمرار هذه الاستراتيجية سيُبقي على القيود التي يفرضها النظام السوري على القوات الإيرانية في أراضيه، لكنّه قد يترتّب عليها ثمن يفوق المنفعة الإسرائيلية، لأنّ هذه الاستراتيجية تواجه الآن في شكلها الحالي تحدياً يتمثّل بمعادلة ردّ الفعل الإيراني ضد القوات الأميركية في المنطقة؛ وعدم القدرة على تعطيل أو تأخير جهود تعزيز إيران على الأراضي السورية؛ بل أسفرت عن توطيد العلاقات بين روسيا وإيران، وتعزيز هذا المحور وتعميق الوجود الإيراني في سوريا مما يتطلّب فحصاً وصياغة استراتيجية مناسبة".
وأضافت أنّ "التقارير الإسرائيلية المتوفّرة تشير إلى أن جهود الضغط على النظام السوري ليست فعّالة لمنع استمرار مشروع التسليح الإيراني، بدليل إنشاء منشآت إنتاج أسلحة تحت الأرض من أجل خلق حصانة طويلة الأمد ضد الضربات الجوية، مما جعل من التركيز الإسرائيلي على المطارات السورية في دمشق وحلب سبباً لزيادة التوترات بين تل أبيب وموسكو".
ومع اندلاع حرب أوكرانيا أعرب الإسرائيليون عن قلقهم من تقييد حرية العمليات الجوية في سوريا، والإضرار بمصالحهم فيها، رغم أنّ التنسيق العملياتي بين "إسرائيل" وروسيا لا يزال سليماً، لكنّ عدداً من التطوّرات قد تشير إلى إمكانية تراجعه، في ضوء تقارب إيران وروسيا.
في السياق نفسه أشار الكاتب في صحيفة معاريف العبرية (ران اندليست) إلى "فشل الاستراتيجية الإسرائيلية المتمثلة فيما يسمى "المعركة بين الحروب" في الحد من قوة حزب الله ومنع إيران من مواصلة برنامجها النووي"، وأيضاً أشار (عاموس يادلين) رئيس شعبة الاستخبارات السابق في جيش الاحتلال إلى أنّه يجب أن يكون النقاش حول استمرار "الجيش" الإسرائيلي في "المعركة بين الحروب". يجب أن يتلقّى الكبينيت تقييماً محدثاً لمدى تحقيق أهداف "الجيش" الإسرائيلي.
من ناحية أخرى، يجب إعادة تقييم مخاطر "مبام" وتهديد الدفاع الجوي من قبل جميع عناصر القوة في الشمال، وخطر الاحتكاك مع الروس وخاصة مخاطر التصعيد. أيضاً رغم جهود "إسرائيل" في إطار "المعركة بين الحروب"، فإنّ حزب الله لا يزال يعزّز قوته العسكرية بمساعدة إيران، وإن لم يكن بالوتيرة نفسها التي أرادها. وقد نجح في تعزيز قدراته في مجال إطلاق النار، وطوّر خطة لتعزيز دقّة الصواريخ، ووسّع قدراته في مجال المسيّرات والدفاع الجوي.
ورغم ذلك، فإنّ التنظيم برأيهم، يبدو أنه يعمل بشكل محسوب ومكبوح في مقابل "إسرائيل"، مع العلم أنّه ذهب إلى أبعد مدى بالتهديد، كما جرى مثلاً عشية توقيع اتفاق الحدود المائية، حينها كان الهدف حفظ توازُن الردع مع "إسرائيل" وتصوير نفسه بأنّه "حارس لبنان وأيضاً زيادة وتيرة التنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية".
فشل المعركة في الساحة الفلسطينية
لم تفشل هذه الاستراتيجية في عقر عملها وهي السّاحة السورية فقط بل أيضاً في لبنان وفلسطين، وأدّت إلى تشبيك الساحات وتوحيدها وتعاظم قدرات المقاومة في فلسطين بحسب تعبير محرّري صحيفة "معاريف" العبرية، إذ أقرّت الصحيفة بفشل MBM في تحقيق أهدافها التشغيلية بعيدة المدى في الساحة الفلسطينية. كل جولات القتال الأخيرة وضعت "إسرائيل" في موقع أدنى من سابقتها.
يقدّم كل حدث جديد تغييراً سلبياً في بعدين: تعزيز مكانة حمــاس السياسية في الساحة الفلسطينية وتدهور صورة "إسرائيل" الدولية. ويمكن ملاحظة ذلك أيضاً في قرار محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بالتحقيق في حرب 2014، والآن أيضاً في نسيج العلاقات بين مواطنيها اليهود والعرب في دولة "إسرائيل".
على المستوى العملياتي أيضاً، وعلى الرغم من النجاحات العملياتية الباهرة، فقد نجح مرتكبو التهديد في رفع مستوى قدرتهم على إلحاق الضرر بالجبهة الداخلية الإسرائيلية كمّاً ونوعاً. فبدلاً من تشكيل MBM للواقع خلال جولات القتال، تشكّل جولات القتال الواقع العام وتشهد "إسرائيل" تدهوراً تدريجياً.
إنّ السعي اليائس للحصول على "صورة انتصار" في نهاية عملية "حارس الأسوار"، في محاولة لـ "كي" وعي الجمهور الإسرائيلي أكثر من وعي قادة حمــاس، هو شهادة مأساوية على هذا الفشل المستمر. لكنّ الفشل الأساسي لسياسة MBMلا يكمن في تحقيق أهدافها العملياتية، بل في تبنّي المستوى السياسي لمنطقها الأساسي كبديل للعمل السياسي.