ألمانيا أمام نقطة تحوّل تاريخية

لا شكّ في أنَّ ما يقوله شولتس منذ بداية الحرب في أوكرانيا هو تحوّل كبير في السياسة الخارجية الألمانية.

  • ألمانيا أمام نقطة تحوّل تاريخية
    ألمانيا أمام نقطة تحوّل تاريخية

لا شكّ في أنَّ ألمانيا تدرك أنَّ العالم دخل مرحلة جديدة قائمة على التعدّدية القطبية، لا تتربّع فيها واشنطن على عرش القيادة، لكنها تدرك أيضاً أن أميركا يجب أن تبقى قوية في النظام العالمي الجديد، فضعفها يعني ضعف الغرب مجتمعاً.

في شباط/فبراير الماضي، ألقى المستشار الألماني أولاف شولتس كلمة أمام البرلمان الألماني بعنوان "نقطة تحوّل تاريخية". جاء هذا الخطاب رداً على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتحدّث فيه شولتس عن التحوّل الجديد في السياسة الخارجية الألمانية. 

وقد قال إن الحرب في أوكرانيا شكّلت نقطة تحوّل في التاريخ الأوروبي، إذ قدّم بالتفصيل خططاً للانفصال الجذري عن سياسة ألمانيا التقليدية تجاه روسيا. وعلى الرغم من أهمية التحوّلات التي تحدّث عنها في خطابه، فإنّه قدّم أيضاً التزاماً قوياً بثوابت سياسية مثل دعم التكامل الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والنظام الدولي القائم على القواعد.

ومنذ أيام، نشر شولتس مقالاً في موقع "فورين أفيرز" شرح فيه ما يعنيه بـ"نقطة التحوّل". يبدأ شولتس مقاله بالقول: "وضعت الحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا نهاية لعصر. أعتقد أنَّ ما نشهده هو نهاية مرحلة استثنائية من العولمة. ظهرت قوى جديدة أو عادت إلى الظهور، بما في ذلك الصين القوية اقتصادياً والحازمة سياسياً. في هذا العالم الجديد المتعدد الأقطاب، تتنافس بلدان ونماذج حكومية مختلفة على السلطة والنفوذ". 

ويعبّر شولتس هنا عن إدراكه أنَّ النظام العالمي القائم على الهيمنة الأميركية انتهى، ودخل العالم مرحلة جديدة فيها قوى صاعدة تتنافس على النفوذ، فأين يرى موقع ألمانيا في هذا النظام الجديد؟

يكمل شولتس مقاله بالقول: "تبذل ألمانيا كلّ ما بوسعها للدفاع عن نظام دولي قائم على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وتعزيزه. ويمكن لألمانيا وأوروبا المساعدة في الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد". 

ويضيف: "يتمثل الدور الحاسم لألمانيا في هذه اللحظة بتعزيز دورها كواحدة من مقدّمي الأمن الرئيسيين في أوروبا، من خلال الاستثمار في جيشنا، وتقوية صناعة الدفاع الأوروبية، وتعزيز وجودنا العسكري في الجناح الشرقي لحلف الناتو، وتدريب القوات المسلحة الأوكرانية وتجهيزها. ويجب تقوية الركيزة الأوروبية في الناتو، فهي الضامن النهائي للأمن الأوروبي الأطلسي".

وهنا، يشرح شولتس رؤيته لموقع ألمانيا في النظام الجديد، فيرى أن بلاده يجب أن تتمسّك بالنظام العالمي القائم على القواعد وتدافع عنه، لأن واشنطن لها اليد العليا فيه، ويجب أن يتعزّز التكامل الأوروبي الأميركي، ما يعني مزيداً من السيطرة الأميركية على أوروبا، ويجب أن تؤدي برلين دوراً في قيادة أوروبا نحو تحقيق هذه الأهداف، ولا سيّما التكامل الأوروبي الأميركي.

بالنّسبة إلى شولتس، يجب أن يتبنّى الاتحاد الأوروبي هذا التوجّه "بعيداً من المصالح الأنانية لبعض الدول التي تستخدم حق النقض ضد بعض الإجراءات". وهنا، يقصد المجر بشكل أساسي، لكونها من الدول التي تعارض فرض الكثير من العقوبات التي تنعكس سلباً عليها، وهو ما يؤدّي إلى تأخير قرار العقوبات أو عدم تمريرها. 

ولحلِّ المسألة، يقترح شولتس اعتماد تصويت الأغلبية بدلاً من الحاجة إلى إجماع من أجل إقرار قرارات تتعلّق بالسياسة الخارجية. وبهذا، تستطيع الأغلبية فرض القرارات السياسية التي تراها مناسبة وإجبار دول الاتحاد الأوروبي على تنفيذها، بصرف النظر عن مصالح الدول الأقليّة الرافضة، وهو ما قد يؤدّي إلى مزيد من الأزمات داخل الاتحاد، فالدول التي لن تستطيع إيقاف القرارات التي تتعارض مع مصالحها الاقتصادية والسياسية ستبدأ بالتفكير في الانفكاك عن تكتّل باتت السياسة دافعاً لاتخاذ القرارات فيه، وخصوصاً في ظل صعود منظّمات أخرى، مثل منظمتي "شنغهاي" و"البريكس".

وبعكس الرؤية التي كانت قائمة قبل الحرب في أوكرانيا، يعتبر شولتس أنَّ الاتحاد الأوروبي أصبح لاعباً جيوسياسياً، فتوسّع الاتحاد يخدم مصالحه الجيوسياسية. فعلياً، هذا ما تقوله روسيا منذ سنوات، ولكنَّ الغرب كان يرفض هذا الطّرح بذريعة أنَّ الاتحاد الأوروبي هدفه اقتصادي بشكل أساسي، ولا يسعى لتحقيق مصالح سياسية على حساب دول أخرى.

وللدفاع عن هذه المصالح وعن النظام العالمي القائم على القواعد، يؤيّد شولتس التعاون مع "البلدان التي لا تتبنى المؤسَّسات الديمقراطية، ولكنها مع ذلك تعتمد على نظام دولي قائم على القواعد وتدعمه". 

وفي رأيه، "سوف تحتاج الديمقراطيات في العالم إلى العمل مع هذه الدول للدفاع عن نظام عالمي يربط القوة بالقواعد ويواجه الأعمال الرجعيّة، مثل حرب العدوان الروسية. سيتطلَّب هذا الجهد البراغماتية ودرجةً من التواضع". 

هذا الرأي تأييد لما ذكرته إستراتيجية الأمن القومي الأميركية منذ فترة عن استعدادها للتعاون مع الدول غير الديمقراطية الداعمة للنظام العالمي القائم على القواعد. طبعاً، هذا التعاون ليس جديداً على الغرب، ولكنه لم يكن بهذا الوضوح، فالغرب كان يختبئ خلف شمّاعة الديمقراطية، ولا يستطيع الإعلان عن هذه الرؤية بهذا الوضوح، ولكن التهديد الموجود اليوم فيه بات يحتّم خلع الأقنعة والمواجهة المباشرة، فالمُهدّد هو سيدة عالمهم.

شكراً بوتين

يرى شولتس أنَّ العقود الثلاثة التي انقضت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي اشتملت على السلام والازدهار، فالعالم في معظمه، بحسب قوله، "عاش فترات السلام والازدهار بعد الحرب الباردة، ويجب ألا تكون هذه المرحلة التي عشناها نادرة أو خارجة عن القاعدة التاريخية التي تملي فيها قوة غاشمة القواعد".

ويضيف: "خلال تلك المرحلة الاستثنائية، شهدت أميركا الشمالية وأوروبا 30 عاماً من النمو المستقر، ومعدلات التوظيف المرتفعة، والتضخم المنخفض، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الحاسمة في العالم، وهو دور ستحتفظ به في القرن الحادي والعشرين". 

وهنا نسأل: ماذا عن العالم خارج حدود أميركا الشمالية وأوروبا؟ عن أي ازدهار وسلام يتحدّث السيد شولتس، فيما مئات الآلاف من الأبرياء قُتلوا في حروب شنّتها أميركا والغرب خلال العقدين الماضيين؟

لا أريد الخوض في نقاش حول الجرائم الأميركيّة خلال العقدين الماضيين، ولكن يبدو أنَّ السيد شولتس يعبّر عن الواقع الذي يراه، فلا بأس بالدمار والقتل ما دام خارج حدود الغرب. وهنا، يجب أن نشكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أشعر الأوروبيين ببعض "السلام والازدهار" الذي تشعر به دول منطقتهم منذ عقود، وأن نشكره لتحطيمه "بنية السلام الأوروبية التي استغرق بناؤها عقوداً"، كما عبّر شولتس.

ويهاجم شولتس روسيا بالقول إنَّها "تحدّت حتى أبسط مبادئ القانون الدولي على النحو المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة: التخلي عن استخدام القوة كوسيلة من وسائل السياسة الدولية، والتعهد باحترام استقلال أراضي جميع الدول وسيادتها ووحدتها. وبصفتها قوة إمبريالية، تسعى روسيا الآن لإعادة رسم الحدود بالقوة وتقسيم العالم مرة أخرى إلى كتل ومناطق نفوذ".

ولكن ماذا عن أميركا؟ بينما يرى شولتس روسيا قوة إمبريالية، فإنّه يرى أميركا قوة حقّقت الازدهار والسلام والأمن. النفاق الغربي بات مثيراً للسخرية، والعنجهيّة أصبحت أكبر، حتى أصبح الرد على كلام كهذا لا طائل منه.

نقطة تحوّل

لا شكّ في أنَّ ما يقوله شولتس منذ بداية الحرب في أوكرانيا هو تحوّل كبير في السياسة الخارجية الألمانية. بالنسبة إليه، إنَّ هدف ألمانيا هو قيادة أوروبا تحت الزعامة الأميركية. طبعاً، العوائق كثيرة جداً أمامه للمضي قُدماً بما يفكّر فيه، فهذا يحتاج إلى إمكانيات مادية وعسكرية ومراعاة للتوازنات الداخلية في ألمانيا.

الأهم هو أن شولتس لا يعبّر عن نفسه فقط، فهذه هي رؤية معظم الغرب الذي بات مقتنعاً بأنَّ ضعف واشنطن يعني ضعف الغرب بأكمله، وبالتالي هم جاهزون للاستشراس في القتال كي لا تستفرد روسيا والصين بهم.