ألكسندر دوغين.. فيلسوف الجغرافيا الأوراسية وعدالة النظام العالمي الجديد
ألكسندر دوغين يتعمق في شرح وتفصيل الأسس النظرية التي يبنى عليها العالم الجديد، ويسقط ذلك على جميع الحالات، بما فيها الحالة الروسية.
بين جميع المفكرين والفلاسفة الروس، يقف ألكسندر دوغين على رأسهم كأبرز منظّر سياسي وفيلسوف روسي معاصر، فدوغين الذي يوصف بالعقل الجيوسياسي الأول في روسيا، والمرجعية السياسية والفلسفية الأكثر أهمية لتوجهات الكرملين وسياساته، ظلّ لسنوات عديدة أحد الجنود المجهولين في صنع القرار الروسي، وسرعان ما خرج من وراء الكواليس ليظهر على مسرح الأحداث بقوة في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد ضم روسيا إلى شبه جزيرة القرم عام 2014. لذلك، تتهمه الدوائر السياسية والإعلامية الغربية بأنه المحرّك الأول لتوجهات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واستراتيجياته، وهذا الوصف لم يجاوز الحق!
في الحقيقة، إن مسارات وتوجهات الدولة الروسية المعاصرة تحت قيادة بوتين -منذ عام 1999- تنسجم بشكل شبه تام مع أطروحات دوغين الفلسفية والسياسية ونظرياته، كالأوراسية -الجيوبوليتيك الروسي- الكلاسيكية والمعاصرة، والنظرية السياسية الرابعة، ورؤيته للعالم متعدد الأقطاب، وغيرها من الآراء والرؤى التي تعكس خلفيته المحافظة سياسياً وتوجهه المعادي لليبرالية الغربية.
وإذا كنا نريد أن نصف الرجل في بضع عبارات، فبإمكاننا القول إنه الروسي الطموح إلى استعادة القديم بتأسيس الجديد المنشود على أنقاض النظام الحاضر، وذلك باستعادة الفضاء الجيوسياسي التقليدي لروسيا -جغرافيا الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي- من خلال تأسيس عالم متعدد الأقطاب يقوم على تعدد الحضارات وليس الدول، بعد هدم العالم أحادي القطب وإسقاط النظام العالمي المعاصر الذي تتفرد بزعامته الحضارة الغربية وتقوده الولايات المتحدة الأميركية.
وستكون روسيا الكبرى من أهم وأبرز مكونات العالم الجديد، وذلك باعتبار شخصيتها الحضارية التاريخية المتميزة والخاصة، وهو العالم الأكثر توازناً وعدلاً من العالم المعاصر وفق رؤية دوغين التي تنطلق من منطلق حضاري وجيوسياسي.
من الواضح أن دوغين يولي أهمية كبيرة للجغرافيا السياسية، التي تعني في الحالة الروسية "الفضاء الجغرافي الأوراسي". كان ذلك واضحاً منذ بداية مشواره السياسي والفكري حين نشر مقالاً عام 1991 بعنوان "حرب القارات"، وقسم فيه العالم جيوبوليتيكياً.
ويضيف دوغين ويشدد على بعد آخر في منظور "الأوراسية الجديدة" الذي يتبناه، وهو البعد الحضاري الذي يعتبره عنصراً أساسياً في تعريف وتكوين الأقطاب العالمية في العالم الجديد، فهو يصر على أن زعامة العالم المعاصر أحادي القطب بيد دولة أكثر من كونه بيد حضارة، وهو يقصد بالطبع قيادة الولايات المتحدة للعالم المعاصر الذي تتزعمه الحضارة الغربية الليبرالية.
تركيزه الشديد على البنية الحضارية والجيوسياسية للعالم الجديد تؤكده رؤيته وتقسيمه للعالم متعدد الأقطاب الذي يتوقع ظهوره، وهو العالم الذي اتضحت معالمه واكتمل تشكيله بعد انعقاد قمة بريكس الخامسة عشرة، كما ذكر دوغين في مقال خاص لموقع الخنادق، وهي القمة المنعقدة بتاريخ 22 آب/أغسطس 2023 في جوهانسبرغ، والتي انضمت فيها 6 دول جديدة إلى منظمة بريكس (مصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأرجنتين)، وهو الحدث الذي وصفه دوغين بأنه نقطة البداية لتأسيس العالم الجديد والمتعدد الأقطاب، والذي ستحكمه سبع حضارات كما حددها وقسمها وفق التقسيم الآتي:
1- الحضارة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول التابعة لهما.
2- روسيا بمجال نفوذها الحيوي والاستراتيجي (الفضاء الأوراسي).
3- الصين ومجال نفوذها الجيوسياسي.
4- الهند (القوة الصاعدة الجديدة) ومجال نفوذها.
5- أفريقيا ممثلة بأكبر وأشد دولها تأثيراً وعمقاً من الناحية الحضارية والتاريخية (جنوب أفريقيا، إثيوبيا، مصر).
6- أميركا اللاتينية (البرازيل كعضو مؤسس لمنظمة بريكس، والأرجنتين المنضمة حديثاً).
7- العالم الإسلامي الذي تمثله في منظمة بريكس: السعودية والإمارات عن الكتلة السنية، وإيران عن الكتلة الشيعية.
وكما نرى، بخلاف النظام العالمي الراهن الذي تنكر فيه الحضارة الغربية المتغلّبة حق الحضارات الأخرى في الوجود، يقبل النظام العالمي الجديد التعددية القطبية على أساس التكافؤ والندّية، ويعترف بأحقية جميع الحضارات بالتعبير عن هويتها الحضارية المستقلة والخاصة وأخذ مكانها وممارسة دورها الذي تستحقه في صناعة العالم الجديد.
من هنا كان الاهتمام الخاص الذي أبداه ألكسندر دوغين بالعالم الإسلامي، فلطالما أخذ حيزاً مهماً في أطروحات دوغين وتنبؤاته بشأن النظام العالمي الجديد، بل إنه يعتبر أن هناك قواسم مشتركة بين بين العالمين العربي والإسلامي وروسيا في ما يتعلق بالحفاظ على القيم التقليدية وتحدي الهيمنة الأميركية ونظام العولمة المعاصر، ويرى أن هناك تشابهاً وتكاملاً في الدور الحضاري المرتقب الذي يؤديه وسيؤديه كل من العالم الإسلامي وروسيا في النظام العالمي الجديد، فقد وصف بوضوح التحالف بين العالم الإسلامي وروسيا في سياق المواجهة مع الولايات المتحدة على شكل معادلة مفادها أن روسيا + الإسلام = أوروبا آمنة.
بالطبع، فإنّ ألكسندر دوغين يتعمق في شرح وتفصيل الأسس النظرية التي يبنى عليها العالم الجديد، ويسقط ذلك على جميع الحالات، بما فيها الحالة الروسية. وفي هذا الإطار، طرح ما عُرف بــ"النظرية السياسية الرابعة" التي تقوم على الوعي الإنساني الذاتي، ولا تنطلق من منطلقات فردية أو قومية، وتعترف بالتنوع والاختلاف بين الثقافات والحضارات نتيجة لتباين الوعي من إنسان إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر.
ويقدر دوغين أن هذه النظرية سترسم ملامح العالم الجديد، وستخلف النظريات الثلاث الرئيسية التي شكلت المسار التاريخي للعالم الحديث، وهي الليبرالية والشيوعية والفاشية، وستحل النظرية السياسية الرابعة محلّ الأيديولوجية الليبرالية السائدة حتى اليوم، والتي انتصرت على الفاشية عام 1945 وعلى الشيوعية عام 1991.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، يتوقع دوغين أن النظرية الرابعة ستنهي سيطرة القيم الليبرالية التي تقوم على "تحرير أعضاء الجسم من سيطرة العقل"، بحسب وصفه، وذلك بعد نهاية الحكومة العالمية التي تسيرها أقلية معينة لمصالحها الخاصة وتقودها الولايات المتحدة، وستحقق هذه النظرية الوليدة للحضارات العالمية جميعها إمكانية الانطلاق من مبادئها السياسية الخاصة وقيمها الأصيلة في ممارسة دورها العالمي ورسم سياساتها.
ويركز دوغين على عنصر آخر يدخل في تكوين البعد الحضاري لكل حضارة وأمة، وهو التصور الأخروي لكل حضارة، فيشير دوغين إلى أن كل حضارة وأمة تمتلك تصورها وإيمانها الخاص حول أحداث آخر الزمان ونهاية العالم أو مآلات ومصير أمة أو دولة ما.
هذا البعد الأخروي موجود عند المسيحيين والمسلمين واليهود، وحتى لدى الأيديولوجيات، كالشيوعية والليبرالية، وعلى نطاق أضيق لدى الدول الكبرى، كالولايات المتحدة وروسيا والصين. ورغم اختلاف وتباين التصورات الأخروية بين الأمم والحضارات، فإن دوغين يرى أن تجاهل البعد الآخروي لدى الأمم والدول يؤدي حتماً إلى قصور في فهم الدوافع وتطورات الأحداث.
وبإسقاط هذه المفاهيم (الجيوبوليتيك، المنظور الحضاري، النظرية السياسية الرابعة، البعد الآخروي) على الحالة الروسية، يرى دوغين أن روسيا حضارة متميزة تمتلك مساراً تاريخياً فريداً، وتتبنى مجموعة من القيم الخاصة التي تمثل الأصالة الروسية.
وبناءً عليه، لا يمكن أن تحقق ذاتها ووجود هويتها الحضارية بشكل مستقل إلا إذا فرضت المقتضيات السياسية لذلك التوجه على أرض الواقع، وهو ما يستلزم السيطرة على الفضاء الأوراسي والجيواستراتيجي لروسيا، لكي تسير نحو مصيرها المحتوم بأن تكوّن نموذجها العالمي الخاص غير الأوروبي وغير الآسيوي، بل النموذج الذي يجمع بين خصائص النمطين معاً، وهو ما سيترافق في المقابل مع النهاية الحتمية للغرب كما يتوقع دوغين.
وبالنظر إلى سياسات روسيا العالمية والإقليمية، نلاحظ بوضوح تطابق توجهاتها ومواقفها مع تلك العقيدة الأوراسية التي وضع ألكسندر دوغين خطوطها العامة وأطّر لها نظرياً، فدعمها الجمهوريات المطالبة بالاستقلال في دول الجوار، كجورجيا وأوكرانيا وغيرها، ودعمها الأنظمة القائمة في دول الاتحاد السوفياتي السابق، والتي تحتفظ بعلاقات تحالف وشراكة قوية مع موسكو مثل بيلاروسيا، إضافة إلى توسيع دائرة النفوذ من خلال بناء تحالفات جديدة والتدخل سياسياً وعسكرياً على نطاق عالمي، كتدخلها في سوريا وليبيا، وموقفها الداعم لبعض الدول الأفريقية التي تمردت على النفوذ الغربي عموماً والسيطرة الفرنسية خصوصاً في السنوات الأخيرة، كل ذلك يؤكد المحددات العامة والمشتركة لهذه السياسة التي تنحصر بمحددين أساسيين.
المحدد الأول هو بناء التحالفات والشراكات مع جميع القوى المناوئة أو الممتعضة من الهيمنة الأميركي وسياسة واشنطن، والآخر، وهو الأهم، يتضمن تعزيز السيطرة الاستراتيجية والحضور الروسي بمختلف أشكاله في المجال الحيوي لروسيا (المجال الجغرافي الأوراسي)، وهو النطاق الجغرافي المحيط بها الذي يشكل عملياً الخاطرة التاريخية للإمبراطورية الروسية ومن بعدها الاتحاد السوفياتي.
يبقى اللافت في موضوع ألكسندر دوغين وقصته هو وجود قيادة روسية في الكرملين تتبنى أفكاره ورؤيته كمرجعية فلسفية وسياسية وتلتزم بنهجه، فدوغين معروف بتأييده ودعمه للرئيس فلاديمير بوتين ولخطواته الجريئة التي قام بها، وأهمها ضم شبه جزيرة القرم والحرب على أوكرانيا، وهو ما يجعله أكثر من فيلسوف ومفكر عادي، لكون الأفكار والآراء التي يطرحها تنعكس على أرض الواقع وتطبق إلى حد كبير، فهو عملياً أهم مهندسي السياسة لصناع القرار في موسكو.
لذلك، هاجمه الإعلام الغربي ووصفته بالمنظّر المتطرف للكرملين، وفرضت عليه الحكومات الغربية العقوبات، وكان آخر ما تعرض له هو محاولة اغتياله التي نتج منها مقتل ابنته داريا في تفجير سيارتها بتاريخ 21/8/2022.