أحمد ياسين: مُدشِّن سفينة الطوفان

دشن أحمد ياسين سفينة الطوفان، والدليل أسلوب الرحيل، حيثُ كان مؤمناً أن الموت حتمياً، ولكن كان يُفضل الموت بالأباتشي بدلاً من السكتة القلبية كما قال رفيق دربه الشيخ الشهيد عبد العزيز الرنتيسي.

  • الشيخ أحمد ياسين تمتع بموقع روحي وسياسي متميز في صفوف المقاومة الفلسطينية.
    الشيخ أحمد ياسين تمتع بموقع روحي وسياسي متميز في صفوف المقاومة الفلسطينية.

قبل الغوص عميقاً في حياة هذا الرجل، أود التعرج إلى قصة كان لها الأثر الأكبر في حياتي، وتحديداً في قراءة مسيرة الشيخ أحمد ياسين، حيثُ تبدأ خيوط القصة عندما تم اخضاعي لمرحلة تحقيق قاسية في شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2010، إذ قام المحقق بإدخالي إلى زنزانة داخل مركز تحقيق عسقلان يوجد بداخلها "أبراش" من الباطون، وهي الزنزانة الوحيدة التي يوجد فيها هكذا نوع من الأبراش، إذ تحتوي جميع الزنازين على فرشات على الأرض، ولكن كان اللافت ما قاله لي المحقق بخصوص هذه الزنزانة، إذ قال: " هذه زنزانة أحمد ياسين، هنا كان نائم، وهنا قام بالاعتراف".

للتوضيح إن المحقق كان يستخدم هذا الأسلوب لإرغام المعتقلين على الانهيار والسقوط، بمعنى إذا كان أحمد ياسين قد اعترف فلماذا أنتم تصمدون؟، وهذا ما فهمته بطبيعة الحال بعد ذلك، حيثُ أكد لي الأسرى في المعتقلات أن الاحتلال يحاول انتزاع عامل الثقة لدى الأسرى من قيادتهم، وأن أحمد ياسين وغيرهم قد اعترفوا، ولكن الحقيقة هي على العكس تماماً، إذا إن أحمد ياسين، وأحمد سعدات، وغيرهم من القيادة  الفلسطينية قد شكلوا نموذجاً في التحقيق والمواجهة حتى الرمق الأخير، وبالفعل جسدوا مقولة الشهيد "أبراهيم الراعي"، إذ قال الراعي: "إن الاعتراف خيانة"، وهنا قام ياسين بدق أول مسمار في سفينة المقاومة.

إذاً دشن أحمد ياسين سفينة الطوفان، والدليل أسلوب الرحيل، حيثُ كان مؤمناً أن الموت حتمياً، ولكن كان يُفضل الموت بالأباتشي بدلاً من السكتة القلبية كما قال رفيق دربه الشيخ الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، إذ يقول الشيخ أحمد ياسين في آخر مقابلة تلفزيونية معه: "إننا طلاب شهادة لسنا نحرص على هذه الحياة، هذه الحياة تافهة رخيصة، نحن نسعى إلى الحياة الأبدية"، ومن عمق كلمات الشيخ ياسين نُشاهد اليوم الأجيال التي تتلمذت على فكر هذا الرجل كيف تواجه الموت من مسافة صفر، وتخوض حرباَ ضروس في أزقة قطاع غزة ضمن ملحمة طوفان الأقصى، حيث أشبال القسام تترجم كلمات الشيخ ياسين، إذ قال ياسين: " يا إيها الشباب، انتم القوة، وأنتم المستقبل، وأنتم حياة الأمة، بالجهاد عزنا، وبالقتال عزنا، وبالاستشهاد عزنا، أما الاستسلام فهو طريق الذل والهوان،، هو طريق الخزي والعار، بارك الله فيكم وبجهودكم وتضحياتكم وثباتكم".

في صلب ما سبق رفض الشيخ ياسين خيار التنازل مع الاحتلال، إذ أجاب أحمد ياسين بكلمات تعتبر لدى البعض أعظم رد سياسي عندما سئل عن التطبيع مع الاحتلال في حال عدم القدرة على المقاومة والقتال، حيثُ قال: " لا، لأن من لا يستطيع الزواج، لا يُباح له الزنا"، وبهذه الكلمات كان الشيخ ياسين يؤسس لسفينة الطوفان التي على متنها يكون المقاوم هو سيد البندقية، هذا السيد الذي يرفض الخنوع والاستسلام والتنازل، خصوصاً أن الشعوب لا تبقى ضعيفة للأبد كما كان يقول، وعليها أن تستفيد من التجارب السابقة، وبهذه الكلمات يستمر الشيخ ياسين ببناء السفينة، ووضع أسسها المتينة.

كان للشيخ ياسين الشرف بأنهُ قام بقص الشريط الأحمر مع الكثير من القادة والشهداء لملحمة الطوفان، وكان أخرهم الشيخ صالح العاروري، وفي سياق متصل أستمر الشيخ ياسين ببناء أُسس هذه السفينة وذلك عبر بناء إرادة المقاوم  كما قال الناطق باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" مؤخراً، إذ تمكن أحمد ياسين بصقل الشباب وتشكيل وعيهم فيما يخص طبيعة الصراع، وإلى جانب ذلك فهم طبيعة المشروع الصهيوني، وكيفية توفير الإمكانيات لدحره عن فلسطين، وفي هذا الصدد يقول الشيخ ياسين: " إن إسرائيل قامت على الظلم والاغتصاب، وكل كيان يقوم على ذلك مصيره الدمار، لأن الفساد لا يدوم في الأرض".

إلى جانب ما سبق كان الشيخ ياسين يعتبر الوحدة الوطنية هي أحد أهم ركائز التي تُحافظ على بقاء السفينة قوية وقادرة على الإبحار، وسعى الشيخ ياسين جاهداً لصد كل محاولات الاحتلال لتفتيت الوحدة الوطنية الفلسطينية، ونسف الروابط العائلية والاجتماعية، ولذلك حذر الشعب الفلسطيني من التفرقة والانقسامات لأن ذلك يؤدي إلى العنف، وضياع البوصلة، وكان دائماً يُردد مقولة حسن البنا، إذ قال البنا: " سنقاتل الناس بالحب"، والقصد من هذه المقولة بالنسبة للشيخ ياسين هو لا مجال لاستخدام السلاح في الداخل الفلسطيني.

أخيراً وليس أخراً إن حياة الشيخ ياسين مليئة بالذكريات والمواقف التي يمكن التعريج عليها، ولنأخذ قصته عندما رفض أطلاق سراحه مقابل جثة جندي، إذ كشف العميد السابق في الشرطة "الإسرائيلية" تسفيكا سيلع على أن الشيخ ياسين رفض مساومة بإطلاق سراحه مقابل الكشف عن جثة الجندي "إيلان سعدون" الذي تم أسره وقتله ولم يعرف مكان دفن جثته.

 وقال الضابط سيلع في هذا الصدد: قال لي أحمد ياسين ذات مرة: "أنت تعرف مدى قسوة شروط أسري واشتياقي للحرية ولا يوجد أحد في العالم مطلع على الحقيقة مثلك، وتعرف حجم أشواقي إلى أحفادي ومحبتي لهم وحلمي بشم رائحتهم ولكن الاقتراح بمبادلتي بجثمان مهين ومرفوض"، وأضاف الشيخ ياسين وفق رواية الضابط: " سأعطيك الجثمان لأنك تطلب ذلك فنحن ندرك وجع العائلة ولكن عدني ألا تطلق سراحي مقابل جثمان الجندي ثم هل تعدني في حال مت داخل السجن بأن تبلغ عائلتي كم كنت مشتاقاً إليهم وأحبهم".